الأخبار

رومان حداد : عن البندورة.. في زمن التغيرات الجيوسياسية الكبرى

رومان حداد : عن البندورة.. في زمن التغيرات الجيوسياسية الكبرى
أخبارنا :  

نبات أحمر اللون غالباً، ملتبس الهوية، فبعضهم يصنفه في خانة الخضراوات وبعضهم يصنفه في خانة الفواكه، يرتفع سعره أحياناً لمستويات جنونية، وفي أحيان أخرى تكون كلفة قطافه أعلى من ثمنه في السوق، ما يدفع المزارعين إلى رميه بالشارع، هذا النبات الذي كنت أظنه بريئاً وطيباً، بدا نبتاً شيطانياً قادراً على إحداث ما يشبه فتنة وطنية، نعم إني أتحدث عن حبة البندورة.

ففي ظل التغيرات الجيوسياسية الكبرى التي تهدد المنطقة، وقد ترسم شكلها وموازين قواها لعقود قادمة، اختار الأردنيون أن يخوضوا معركة من نوع خاص، بدأت حين ظهرت سيدة على قناة فضائية، وخلال استضافتها، تحدثت عن دور جدها في إطعام الأردنيين البندورة، وكانت تلك الجمل البسيطة كافية لإشغال الأردنيين على وسائل التواصل الاجتماعي للحديث عن الهوية الوطنية وظهور حالة من عدم الانضباط السلوكي، عبر عمليات تهجم متبادلة من مختلف الأطراف، فيما يمكن تسميته (حرب البندورة).

وحاول العديد من الأردنيين اللجوء للتاريخ بأسلوب شبه علمي للتأكيد على أن من كانوا يعيشون في الأردن قبل عام 1948 كانوا يأكلون البندورة، وكانت البندورة حاضرة على موائدهم، ولا فضل لأحد على الأردنيين بأكلهم للبندورة.

أدهشتني حالة الفوضى التي أنتجتها حبة البندورة، واستغربت كيف يمكن لنبتة غير معروف تصنيفها أن تثير كل هذا الجدل الهوياتي، وتفتح جرحاً، بدا لي أنه محتقن، ويحتاج إلى أية لحظة كي يفجر قيحه.

بعيداً عن مهاترات الهويات القاتلة التي ظهرت، وللحديث بهدوء عن تاريخ البندورة في الأردن، فإن واحداً من أبرز المختصين في الزراعة في الأردن، طلب مني عدم ذكر اسمه، وأحترم علمه ومعرفته وموضوعيته، أخبرني أنه يوجد تأريخ يعود إلى ما قبل مائة وخمسين عاماً للبندورة في الأردن، وهي بندورة إرحابا، ولكن هذه البندورة ليست تجارية بسبب طبيعتها الهشة، وبالتالي فإن استهلاكها المنزلي يكون من قبل من يزرعونها، وهي تشبه بذلك جميع المنتجات الزراعية المحلية.

في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين هاجر كثيرون إلى ساحل المتوسط من قارة أوروبا، وجلبوا معهم بذوراً عدة، وهي بذور تنتج محاصيل زراعية تجارية، يمكن تخزينها ويمكن وضعها على الرف في المتاجر، وكانت من بينها البندورة ذات الغلاف السميك، القابل للتخزين والنقل والوضع على رفوف المتاجر.

ومع نهاية حرب النكبة، ولجوء عدد كبير من الفلسطينيين المزارعين إلى الأردن، نقلوا معهم إلى الأردن هذه النوعية من البذور، وبدأت زراعة محاصيل تجارية، وهنا انتهت الاقتباسات.

ما قيل يمثل حالة من التثاقف الحضاري التي تُحسب للأردن ولا تُحسب عليه، بل ربما تُعطينا مؤشراً مهماً وحيوياً لماذا تطور الأردن بتسارع أعلى بكثير من الدول المحيطة به، وهو ما يوجب الدراسة لاحقاً.

ما يثير في قصة البندورة، أننا كنا نخشى سابقاً مباراة كرة قدم بين فريقين قد تفجر أزمة داخلية، واليوم بتنا نخشى أي شيء أن يفجر أزمة داخلية، وهو ما يُظهر حالة من الهشاشة الهوياتية لدى جميع مكونات المجتمع الأردني، فوجود اليمينيين لدى جميع الأطراف يخلق حالة من الهوس الهوياتي الأعمى، ويخلق مساحات صراع هوياتي، عوضاً عن أن نحتفل بتنوعنا، وندرك أن كل فرد فينا قدم جديداً للأردن الذي يحب، وأنه جزء من هوية الأردن الكبرى، هذه الهوية الحية لأنها قابلة للتطور والتحديث وليس لأنها جامدة صلدة لا تتفاعل مع محيطها.

الخطاب الهوياتي في الأردن يحتاج إلى مراجعة سريعة، فالحالة وصلت مراحل متقدمة تهدد الوطن والسلم الأهلي، ولم يعد الحديث العام المتسامح كافياً ليغطي على ما يدور خلف الجدران والأبواب المغلقة، فالخطابات المتوازية مع خطاب الدولة باتت تؤثر على السياقات العامة، لا بل باتت مسيطرة على الآليات العقلية التي تدفع الأردنيين للتحرك والفعل.

البندورة، عوضاً أن تجمعنا على صحن سلطة أو قلاية، أظهرت كم نعاني من شعور بالتهديد بصورة مستفحلة، يجب الذهاب إلى الأسباب ومعالجتها، فتخفيض الحرارة لن يجعلنا نقضي على أسبابها.

ــ الراي

مواضيع قد تهمك