اسماعيل الشريف يكتب :غالاوي يتخلى عن العرب
تِيهِي بِلادَ الغَربِ إِنّا أُمّـــــــةٌ ...
غَيـر التَّخَـاذُلِ وَالشّقَا لـم نَعتَدِ
نَرضَى الحَيَاةَ عَلى الهَوَانِ كَأنّما ...
كلّ المطَامِعِ أَن نَعِيشَ إِلى الغَدِ
جميل صدقي الزهاوي
في الرابع عشر من الشهر المنصرم، أثناء بث برنامجه الإذاعي المباشر، تلقى جورج غالاوي - السياسي البريطاني المعروف بدفاعه المستمر عن القضايا العربية، وخاصة القضية الفلسطينية، ومواقفه المناهضة للسياسات الإمبريالية في المنطقة - اتصالًا من مستمعة تُدعى ماي. عبّرت المتصلة عن استيائها مما وصفته بتحول ملحوظ في موقف غالاوي تجاه القضايا العربية.
جاء رد غالاوي حاسمًا وصريحًا، حيث قال: «المشهد العربي قد تغير بشكل جذري؛ فالعراق تحول إلى أنقاض، وسوريا لم تعد كما كانت، وتبدلت جميع المعطيات.» ووصف القضية العربية بأنها «قضية خاسرة»، ثم أردف بعد صمت قصير: «لقد انتهت مرحلة نضالي من أجل العرب».
اكتسبت هذه الواقعة أهمية إعلامية خاصة، وبرز من بين ردود الفعل العديدة موقف م.أ. الروماني، المفكر والناشط السوري المعروف، الذي يُعتقد أنه يستخدم اسمًا مستعارًا. فقد وجّه رسالة مفتوحة إلى غالاوي، عبّر فيها عن امتنانه لجهوده التاريخية في دعم القضايا العربية، مع تعبيره عن أسفه لموقفه الأخير. واستطرد الروماني مؤكدًا أن القضية العربية تتجاوز المعطيات السياسية والحكومية المؤقتة، لتمثل إرثًا حضاريًا وثقافيًا متجذرًا. كما أكد أن الهوية السورية أعمق من أن تُختزل في نظام سياسي أو حدود جغرافية، داعيًا غالاوي إلى مراجعة موقفه، ومؤكدًا استمرارية النضال العربي.
من خلال متابعتي لمواقف المناصرين الغربيين للقضايا العربية والمعارضين للسياسات الأمريكية لاحظت ميلًا واضحًا لدى العديد منهم نحو تأييد غير مشروط للأنظمة العربية التي تقدم نفسها كقوى مناهضة للصهيونية والإمبريالية. لكن هذا التأييد يتجاهل حقيقة أن بعض هذه الأنظمة تمارس القمع والاستبداد ضد شعوبها، وتفشل في تحقيق أي تقدم ملموس على الصعيد التنموي والاجتماعي.
يطرح هذا الواقع معضلة جوهرية: كيف يمكن تبرير الدفاع عن أنظمة يتناقض سلوكها مع شعاراتها المعلنة ومبادئها المدّعاة؟
إن فهم الطبيعة السياسية العربية يتطلب العودة إلى جذورها التاريخية. فمنذ فجر الإسلام، ارتبطت السياسة العربية ارتباطًا وثيقًا بشخصية القائد. وقد أشار ابن خلدون في مقدمته الشهيرة إلى أن الطبيعة البدوية للعرب تميل إلى عدم الانضباط، مما يجعل وجود قائد قوي وملهم ضرورة حتمية لتوحيد الصفوف وتحقيق الأهداف المشتركة.
لقد أوضح ابن خلدون كيف أن الاعتماد على الأفراد في قيادة المجتمع العربي، بدلًا من بناء مؤسسات راسخة، يجعل استمرارية الدولة مرهونة بوجود القائد.
على النقيض من ذلك، تتميز التجربة الغربية باعتمادها على المؤسسات؛ حيث تشكل المعارضة عنصرًا أساسيًا في النظام السياسي، مما يضمن استمرارية الدولة واستقرارها بغض النظر عن تغيّر الأشخاص في مواقع القيادة.
يبدو أن المناصرين الغربيين للقضايا العربية يغفلون حقيقة أساسية: أن الأمة العربية تمرض لكنها لا تموت، قد تمر بفترات ضعف لكنها تمتلك قدرة استثنائية على التجدد والنهوض.
ويتجلى هذا في موقف المؤرخ ابن الأثير عند سقوط بغداد عام 1258، حيث كتب بحزن عميق: «لقد بقيت عدة سنين مُعرِضًا عن ذكر هذه الحادثة استفظاعًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم رِجلًا وأؤخر أخرى، فمن الذي يَسهُل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟».
ومع ذلك، لم تلبث الأمة طويلًا حتى انتفضت، وسرعان ما استعادت قوتها، فبعد أقل من عامين، حققت انتصارًا تاريخيًّا على المغول في معركة عين جالوت بقيادة السلطان المظفر سيف الدين قطز، في انتصار أعاد الأمل للأمة وأثبت قدرتها على النهوض من تحت الرماد.
رغم المشهد القاتم الذي يخيم على العالم العربي اليوم، حيث تعاني الأمة من التفكك والفوضى والاحتلال، وتبدو عاجزة عن مواجهة التحديات الصهيونية والغربية، إلا أن الدروس التاريخية تؤكد أن هذه المرحلة، رغم قسوتها، ستكون محفزًا لنهضة جديدة، فالتاريخ يعلمنا أن قدرة الأمة على النهوض من كبواتها هي سمة متجذرة في هويتها وتراثها. ــ الدستور