د . صالح ارشيدات يكتب : رؤية السلام: لخريطة الدولة الفلسطينية في ظل “صفقة القرن”التي اطلقها الرئيس ترامب عام 2020 بمناسبة عودته بقوة اليوم لرئاسة أميركا.
بقلم الدكتور صالح إرشيدات
لا تزال القضية الفلسطينية، التي تمثل قلب الصراع العربي الإسرائيلي، تتصدر الأجندة السياسية الدولية، حيث تتشابك فيها المصالح الإقليمية والدولية لتشكل معضلة مستعصية على الحلول السطحية. في يناير 2020، طُرحت "صفقة القرن”، وهي مبادرة سياسية وُصفت بأنها رؤية للسلام، إلا أنها أثارت جدلًا واسعًا بسبب ما تحتويه من انتقاص للحقوق الفلسطينية، وإعادة صياغة ملامح الدولة الفلسطينية بشكل يخدم الهيمنة الإسرائيلية. الخارطة المرفقة، التي تُظهر تصورًا للدولة الفلسطينية المستقبلية، هي انعكاس واضح لهذا المشروع المثير للجدل. في هذا المقال، سنغوص في تفاصيل هذه الخارطة، مستعرضين ملامحها، التحديات التي تفرضها، وأثرها على الفلسطينيين، والأردن، والإقليم ككل.
قراءة تفصيلية للخارطة
التقسيم الجغرافي: دولة فلسطينية مُجزأة
الخارطة تُظهر الدولة الفلسطينية المستقبلية ككيان مجزأ جغرافيًا، محاط بالكامل بالأراضي الإسرائيلية. هذه التجزئة تقسم الضفة الغربية إلى جيوب متناثرة تفصل بينها المستوطنات الإسرائيلية، وتربطها ممرات ضيقة مثل الجسور والأنفاق. ومن أبرز هذه السمات:
1. قطاع غزة: يظهر كجزء رئيسي من الدولة الفلسطينية المقترحة، ولكنه منفصل جغرافيًا عن الضفة الغربية. يُربط القطاع بالضفة عبر ممر مائي أو نفق يمر بالأراضي الإسرائيلية، ما يضع حرية الحركة تحت السيطرة الإسرائيلية المطلقة.
2. الضفة الغربية: تنقسم إلى مناطق متفرقة، أشبه بجيوب أو كانتونات، تسيطر إسرائيل على محيطها، وحدودها، والطرق التي تصل بينها. المستوطنات الإسرائيلية التي انتشرت في عمق الضفة تُبقي الفلسطينيين محاصرين داخل أراضٍ محدودة لا تتيح تطورًا طبيعيًا لدولة مستقلة.
3. الأغوار الفلسطينية: تُظهر الخارطة استبعاد منطقة الأغوار بكاملها من الدولة الفلسطينية. الأغوار، التي تعد سلة الغذاء الفلسطيني والامتداد الجغرافي الشرقي للضفة نحو الأردن، ستبقى تحت السيطرة الإسرائيلية، مما يحرم الفلسطينيين من الاستفادة الزراعية والاقتصادية من هذه المنطقة الخصبة.
السيطرة على الموارد الطبيعية والممرات الحيوية
الخارطة لا تكتفي بفرض حدود مجزأة ومشوهة، بل تسلب الفلسطينيين حقهم في الموارد الطبيعية والممرات الحيوية، بما في ذلك:
1. البحر الميت: يظهر البحر الميت بالكامل من الجهة الغربية تحت السيطرة الإسرائيلية، بما في ذلك مناطقه الصناعية والسياحية. هذا يعني حرمان الفلسطينيين من عوائد اقتصادية مهمة، فضلًا عن فقدانهم للسيطرة على أحد أهم المعالم الجغرافية في المنطقة.
2. امكانية تنفيذ مشروع تحلية مياه كبير يربط حيفا ببيسان والبحر الميت: تشير الخارطة إلى سيطرة إسرائيلية تامة على مشروع ربط ميناء حيفا بمنطقة بيسان والبحر الميت مع بحيراتها وسدودها المائية. هذا المشروع يُعيد تشكيل الخريطة الاقتصادية والمائية في المنطقة، حيث يُعزز النفوذ الإسرائيلي على حساب الفلسطينيين والأردن، ما يفاقم الأزمة المائية المشتركة.
3. نهر الأردن واليرموك: وفقًا لهذه الرؤية، سيتم تقليص حقوق الفلسطينيين المائية في نهر الأردن إلى حد كبير. وستبقى السيادة الإسرائيلية على مجرى النهر ممتدة من بيسان شمالًا حتى البحر الميت جنوبًا، مما يحرم الفلسطينيين والأردن من حقوقهم التاريخية في مياه النهر.
الحدود مع الأردن
رؤية "صفقة القرن” تطرح سيناريو يجعل الحدود الفلسطينية الأردنية غير موجودة فعليًا. الحدود التي تُظهرها الخارطة ستكون مشتركة بالكامل بين إسرائيل والأردن، مع إشراف إسرائيلي كامل على المعابر. هذا الوضع لا يضر بالفلسطينيين فقط، بل يمتد أثره إلى الأردن، حيث تصبح السيادة الأردنية على نهر الأردن ونهر اليرموك محدودة بسبب التدخلات الإسرائيلية.
تحديات الرؤية وتأثيرها الإقليمي
التحديات السيادية للفلسطينيين
الطرح الوارد في الخارطة يُظهر أن الدولة الفلسطينية المستقبلية ستكون منقوصة السيادة بشكل كامل. فقدان السيطرة على الحدود، الممرات، الموارد المائية والطبيعية، وحتى المجال الجوي، يعني أن الفلسطينيين لن يمتلكوا مقومات الدولة المستقلة. بهذا الشكل، تتحول الدولة الفلسطينية إلى كيان يعتمد كليًا على الإذن الإسرائيلي في مختلف مناحي الحياة.
التأثير على الأردن
الأردن، الذي يتأثر بشكل مباشر بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لن يكون بمنأى عن تداعيات هذه الرؤية. التعدي الإسرائيلي على مياه نهر الأردن واليرموك، والسيطرة على الأغوار الشمالية، وتلاصق الحدود الإسرائيلية الأردنية، كلها عوامل تُهدد الأمن المائي والاقتصادي الأردني.
تهديد السلام الإقليمي
رؤية "صفقة القرن” إذا طبقت تمثل انحيازًا واضحًا لإسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية. هذا الانحياز يُفاقم التوترات في المنطقة، حيث يُنظر إلى هذه الرؤية على أنها محاولة لفرض حلول غير عادلة لا تحترم الحقوق التاريخية للشعوب، مما يضعف فرص السلام ويزيد من احتمالات تصعيد الصراع.
مشروع البحر الميت وربط بيسان: أبعاد اقتصادية وجيوسياسية
من المشاريع الرئيسية التي تبرزها الخارطة السيطرة الإسرائيلية الكاملة على البحر الميت وصناعاته، وربط منطقة بيسان بحيفا. هذه المشاريع تعكس رغبة إسرائيل في تعزيز هيمنتها الاقتصادية على المنطقة، حيث تُحول الفلسطينيين إلى متلقين اقتصاديين دون أي قدرة على المشاركة أو الاستفادة من مواردهم.
1. البحر الميت: السيطرة الكاملة على الصناعات المرتبطة بالبحر الميت تُحرم الفلسطينيين من أي دخل اقتصادي ناتج عن الموارد الطبيعية. هذا يشمل الصناعات الكيميائية، التعدين، والسياحة.
2. بيسان وحيفا: إسرائيل تعمل على خلق بنية تحتية تُعزز من قدرتها على التحكم بالمياه والاقتصاد في شمال فلسطين، مما يجعل الفلسطينيين والأردن معتمدين بشكل متزايد على إسرائيل لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
"رؤية السلام”: هل هي حل أم تكريس للاحتلال؟
رغم أن الخارطة تُقدم كجزء من "رؤية السلام”، إلا أن المضمون يكشف عن خطة لتكريس الاحتلال الإسرائيلي وفرض حل من طرف واحد. الدولة الفلسطينية كما تصورها هذه الخارطة ليست سوى كيان هش، منزوع السيادة، ومجزأ جغرافيًا، حيث لا يمتلك الفلسطينيون سوى الحد الأدنى من الاستقلال الشكلي.
من جهة أخرى، التأثيرات السلبية لهذه الرؤية تمتد لتشمل الأردن، الذي يجد نفسه أمام تحديات مائية واقتصادية وأمنية جديدة بسبب التوسع الإسرائيلي.
الخلاصة: نحو رؤية عادلة وشاملة
إن قراءة الخارطة تُظهر بوضوح أن "رؤية السلام” كما طُرحت لا تُمثل حلًا عادلًا أو مستدامًا للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. الحل الحقيقي يتطلب احترام الحقوق التاريخية للفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة ذات السيادة الكاملة، بعاصمتها القدس الشرقية، مع ضمان حقوقهم في الموارد الطبيعية والممرات الحيوية.
في النهاية، فإن السلام الحقيقي لا يمكن أن يُبنى على التجزئة والإقصاء، بل على أسس العدل والمساواة واحترام حقوق الشعوب. وحتى تتحقق هذه المبادئ، ستبقى هذه الخارطة محل رفض فلسطيني وعربي ودولي، باعتبارها محاولة لتثبيت واقع الاحتلال بصيغة جديدة.