هزاع البراري : بين شرع بايدن وجولاني ترامب والعلاقة الملتبسة
الناظر في تاريخ تحولات الجولاني / الشرع منذ بواكير انضمامه إلى الحركات الجهادية الإسلامية السنية، يدهشه قدرة الجولاني على التحول من مسار إلى آخر، وقدرته الفذة في تغيير الهندام الفكري، وأن يكون هذا الهندام على مقاسه تماما ويمتاز بجودة الصنع وناقة المظهر، فمنذ التحاقه بالقاعدة في العراق مع مصعب الزرقاوي بعيد سقوط نظام صدام حسين، وإلقاء القبض عليه من قبل الأمريكان وسجنه لمدة خمس سنوات، وثم إلتحاقه بالحراكات الجهادية في سوريا وتأسيس فرع للقاعدة هناك، فكانت جبهة النصرة التي نمت سريعا وكبر حجمها وفعلها حتى صارت الأكثر تأثيرا وقسوة، وذلك باستخدامها الطرق التقليدية للقاعدة وفروعها مثل العمليات الانتحارية والأحزمة الناسفة والمفخخات، والتي أودت بحياة عدد كبير من المدنيين، وهذه وغيرها عوامل دفعت أمريكا إلى وضع جبهة النصرة على قائمة الإرهاب، كونها تدين بالولاء للقاعدة وقائدها بن لادن ومن بعده الظواهري، ونهجها العسكري الدموي غير الإنساني في الحرب التي وقودها المدنيين غالبا.
رغم إعلان أبو بكر البغدادي تبعية جبهة النصرة لداعش وأنها جزء منها، إلا أن الجولاني ما لبث أن تمرد على ذلك وتملص منه، واستمر بإعلان الولاء للقاعدة وزعيمها الظواهري، وقد تبرأت الأخيرة من داعش في نهاية المطاف، لكن تحولات الجولاني لم تقف عند حد، فمع إدراج منظمته على لائحة الإرهاب العالمية، ومن ثم تخصيص مكافأة عشرة ملايين من قبل أمريكا لمن يساعد بالقبض على الجولاني، ومن ثم خروجه مع كوادره العسكرية ريف دمشق وغيرها باتجاه إدلب وتأسيس نواة للحكم فيه، وأصل تغيير هندامه بالتخلي عن اسم جبهة النصرة إلى فتح الشام، وبعد ذلك فترة ظهر الأسم الجديد والمتداول حاليا جبهة تحرير الشام، على ما يحمله التخلي عن كلمة "النصرة" ومن ثم كلمة "فتح" من دلالات دينية وفكرية ومحاولة إضفاء أفق أوسع للتنظيم، وما تلوح به ذلك من رسائل موجهة للخارج أكثر من كونه للتأثير الداخلي.
رجل بهذه المواصفات الديناميكية وربما البراغماتية في مرحلة ما قادمة لا محالة، وما تميز به من حسن قراءة للمشهد العالمي وتحولاته وإدراك متطلباته ومحاولة خلق مقاربة معه، تجعله تحت مجهر القوى الدولية الفاعلة بحذر، فمع إنعدام الخيارات البديلة، وفقدان الثورة الشعبية في الداخل السوري لأي مقومات يمكن الاعتماد عليها بعد أن فعلت إيران وحلفائها فعلها بالحديد والنار، فإن جبهة تحرير الشام وعلى رأسها جولاني القادر على التماهي واستيعاب التغيرات ولو بنسبة معينة، هي التي جعلت منه الخيار الأوحد حاليا، في ظل ضعف حزب الله وتراخي إيران الإجباري، وهشاشة جيش الأسد المنهك والفاقد للعقيدة والدافعية، وتحت ضغط ضيق الوقت قبيل تسلم ترامب لزمام البيت الأبيض وهو المعادي تماما للإسلام السياسي وللجولاني، وكذلك الخوف من إنهاء الحرب الأركرانية واستعادة روسيا لعافيتها العسكرية مما قد يوفر دعما إضافيا للأسد، كلها عوامل جعلت من جولاني البارحة شرع اليوم خيارا مثاليا ووحيدا لإحداث انقلاب كبير في زمن قصير.
لاشك أن ترامب لا يثق بشرع بايدن كون الشرع تحرك بدعم تركي ومباركة أمريكية واضحة، نتج عنها زيارة وفد أمريكي رفيع المستوى، نتج عنه مباشرة إعلان إلغاء مكافأة العشرة ملايين، وهي نقطة تحول جوهرية، ومن المؤكد أن هذا الإلغاء جاء نتيجة تفاهمات واتفاقات أساسية، مما يعطي الشرع اليوم مزيدا من القوة والتماسك، في ظل مرحلة غاية في الصعوبة والتعقيد، في بلاد منهكة وأرض تتنازعها الملشيات ذات الولاءات المختلفة والمتضادة أيضا، ناهيك عن القوى المستترة للنظام السابق، وأخرى مارقة لا تقبل المساس بمصالحها بسهولة.
ترامب قادم قريبا جدا، وافتتاحية العام الأمريكي الجديد دامية بملامح داعشية، وهذا ما يدعم عدم ثقة ترامب بتحولات القوى الجهادية، فما هو شكل العلاقة بين الطرفين بعد قرابة الشهر؟، نعم ترامب اليوم ليس نفسه ترامب الدورة الأولى، لكنه لا يختلف عنه تماما ولا يناقضه، الحديث هنا عن قوة الوتيرة وقدرتها على التأثير، كلا الرجلين الشرع وترامب يمتاز بسرعة التحول والاستجابة السريعة في إعادة التموضع، وأداء الشرع المدروس والممسرح مؤثر ومطمئن للداخل والخارج، لكن هل تحمل كوادر النصرة / تحرير الشام والقواعد المسلحة نفس فكر وتحولات قائدهم من الجولاني إلى الشرع؟ ما مدى سيطرة الشرع على القرار في تنظيمه في ظل كل هذه التغيرات؟ وهل هذه الكوادر المسلحة والتي قاتلت لسنوات طويلة تحت قيادته، ستقبل وتتفهم أفكار وتوجهات الشرع الجديدة، وهل سيكون في استطاعته بناء دولة مدنية على رصاص بنادق مجاهدين إسلاميين؟.
الأسئلة الكبرى كثيرة ومقلقة لكل الأطراف، والشرع اليوم بين مطرقة العالم والداخل وسندان جماعته التي أوصلته للحكم بمبادئها وليس في سبيل دولة مدنية، أمريكا ترامب ستراقب وستضغط، وأي إنقلاب معاكس للتفاهمات التي جرت في دمشق مع الشرع سنجد أن سوريا أمام خيارات جديدة قد تدخل المنقطة برمتها في دوامة جديدة من العنف والتقسيم.