الأخبار

د. محمد العرب : هل أصبح الجيل الأصغر حُكّام المستقبل؟

د. محمد العرب : هل أصبح الجيل الأصغر حُكّام المستقبل؟
أخبارنا :  

ما الذي يجعل الأجيال تتصارع بدلاً من أن تتكامل؟ هل نحن أمام خلل طبيعي في مسيرة الزمن، أم أن تسارع الأحداث والاختراعات جعل كل جيل غريباً عن سابقه؟ نحن نعيش في عصرٍ يطرح أسئلة وجودية حول معنى الخبرة وحكمة الكبار ودورهم في عالمٍ تسيطر عليه التقنية والمفاهيم الجديدة، هل ماتت الحكمة التي استمرت لآلاف السنين أمام ثورة التكنولوجيا؟ وهل أصبح العقل البشري رهينة الشاشة، يتغير ويعيد تشكيل نفسه وفقاً لتعليمات الخوارزميات؟
لا أعتقد أن البشرية عايشت فجوة بين أجيالها كما تعايشها اليوم في عصر التقنية المتسارع المجنون والذي لا يمكن توقع قفزاته، لم تعد الفجوة مقتصرة على فروق في الأفكار أو التجارب الحياتية، بل أصبحت فجوة في اللغة، المرجعيات، الأذواق، والسلوكيات والانطباعات، عالم اليوم يتميز بتغيير عاصف لا يُبقي للجيل الأكبر أي مساحة لفهم ما يجري من حوله بسهولة، التقنية التي من المفترض أن تكون أداة للتواصل، أصبحت جداراً شفافاً شاهقاً يعزل بين الأجيال،كل جيل يرى الآخر، لكنه عاجز عن الوصول إليه او حتى التواصل المنتج معه.
لقد انتهت صلاحية خبرة الكبار في نظر الصغار. لم تعد تلك النصائح التي تراكمت عبر العقود كافية أو حتى ذات صلة في عالمٍ تقوده الخوارزميات، حيث تُحدد التطبيقات اتجاهات الأذواق، وتُعاد تعريف أساليب الكسب. أصبح الشاب الصغير الذي لم يتجاوز العقد الثاني من عمره يعرف أسراراً عن العملات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، وأسواق العمل العالمية، أكثر مما قد يعرفه الجد الذي خاض حروباً وأسس عائلات وبنى إمبراطوريات صغيرة بجهده وعرقه.
هذا التحول السريع جعل من الأجداد، والآباء في كثير من الأحيان، يعيشون حالة من الغربة الشعورية حتى في وجود أبنائهم وأحفادهم. تبدو حياتهم السابقة وكأنها من زمن مختلف تماماً، وكأنها قصة تُحكى في كتاب قديم لا يهتم أحد بقراءته، اما المقولة المستحدثة (اللي أصغر منك بيوم أعلم منك بسنة) أصبحت واقعاً مريراً للكثيرين، فقد الكبار تلك السلطة الطبيعية التي لطالما امتلكوها كحكماء ومرجعيات أخلاقية ومعرفية. أصبح العجز عن استيعاب سياقات الشباب الجديدة، التي تتغير بلمح البصر، يشل قدرة الكبار على تقديم المشورة المناسبة أو حتى طرح خطاب مقنع.
لكن، هل يعني ذلك أن على الأجيال الأكبر أن تتخلى عن أدوارها تماماً؟ بالطبع لا. في عالمٍ يتميز بالفوضى والمعلومات المتناقضة، تبرز الحاجة إلى الحكمة التقليدية التي لا تتأثر بالزمن. الحكمة ليست في محاولة مجاراة الجيل الجديد في تفاصيل يومياتهم، بل في تقديم قواعد كبرى تمنحهم أدوات لفهم العالم بطريقة أعمق. عندما تخاطب الأجيال الأصغر، لا تحاول أن تملي عليهم الطريق، بل قدم لهم بوصلة ترشدهم إلى الاتجاه الصحيح، واترك لهم حرية اختيار الطريق.
إن تقديم القواعد الكبرى والتفكير النقدي والمفاهيم الصلبة هو أعظم ما يمكن أن يُقدمه الكبار اليوم للأجيال الشابة. قد يبدو ذلك تحدياً، لكنه السبيل الوحيد لضمان أن يظل الحوار بين الأجيال مفتوحاً ومثمراً، فالحكمة تكمن في أن تقدم للآخرين أدوات للنظر، وليس مجرد نظرات جاهزة.
ومع كل ذلك، هناك مسؤولية أخرى لا تقل أهمية: أن يحتفظ الكبار بالشعور بالمسؤولية تجاه الأجيال الأصغر، مهما بدا الفارق بينهما شاسعاً، الدعم الصادق والنصيحة المثمرة التي تنبع من المحبة الحقيقية ستظل جسراً لا يستطيع الزمن هدمه.
نحن الآن أمام لحظة حاسمة. اللحظة التي يتوجب فيها على كل جيل أن يعيد تعريف أدواره وحدوده، وأن يتعلم كيف يتعايش مع الآخر دون صدام أو إقصاء. التقنية ستواصل تغيير العالم، وربما بمعدلات أسرع مما نتصور، لكن الحكمة الإنسانية ستظل دائماً البوصلة التي لا يُمكن استبدالها بأي تطبيق أو خوارزمية.
في النهاية، الأجيال ليست في صراع، بل في دورة مستمرة، حيث يحمل كل جيل الشعلة التي تُنير درب الجيل الذي يليه.

ــ الدستور

مواضيع قد تهمك