د . صالح ارشيدات يكتب : تجويع شعب غزة .. جريمة إبادة جماعية

في قلب الصراع القائم منذ شهور، تقف غزة اليوم شاهدةً على واحدة من أبشع صور الانتهاكات التي قد يرتكبها الإنسان ضد الإنسان: تجويع المدنيين عمداً. حين يُحاصر أكثر من مليوني إنسان، يُقطع عنهم الغذاء والماء والدواء، وتُمنع عنهم المساعدات الإنسانية، ويُستهدف الأطفال والمرضى، فإننا لا نتحدث فقط عن مأساة إنسانية، بل عن جريمة حرب موصوفة، وربما أكثر. ستبقى صورة أبناء غزة وهم يتزاحمون بطناجر فارغة حول الغداء حية تقلق ضمائر الانسانية.
يُقرّ القانون الدولي الإنساني صراحة بأن استخدام التجويع كسلاح ضد المدنيين يعد جريمة حرب، وفق المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. ويدين هذا النظام كذلك الحرمان المتعمد من المواد الأساسية للبقاء على قيد الحياة، كالغذاء والماء والدواء، لا سيما عندما يُستخدم ذلك لإخضاع السكان المدنيين أو إجبارهم على الرحيل أو الاستسلام او الموت.
ما يجري في غزة يتجاوز المفهوم العسكري التقليدي للحصار، إلى حصار شامل خانق يُمارس تحت ضغط النار والسلاح والتهديد بالاجتياح والموت الجماعي. المستشفيات خارج الخدمة، الأطفال يموتون جوعًا أو عطشًا أو بسبب انعدام الرعاية الطبية، ووسائل الإعلام توثق مشاهد لا يمكن أن تخطئها عين القانون والضمير،والعالم كله يصمت ولا من يجرؤ أن يرفع صوته منددا بالإبادة البشرية البطيئة. ونتساءل كيف يمكن لانصار مشروع قيم البيت الابراهيمي وشعاره السلام بين الأديان ان يصمت ولا يعارض علنا حصارا يودي بحياة الاف الأبرياء بينهم أطفال ومرضى ونساء ؟.
علما انه اذا لم تترجم قيم البيت الابراهيمي الى موقف أخلاقي وروحي واضحين من المأساة الجارية في غزة فان المشروع يفقد جوهره الأخلاقي والروحي و يفقد أنصاره.
أكثر من ذلك، فإن القصد الظاهر من هذه السياسات، وما يرافقها من تصريحات رسمية تحرّض على العقاب الجماعي و”محو” القطاع، يُحيلنا إلى تعريف الإبادة الجماعية، كما نصت عليه اتفاقية 1948 الخاصة بمنع جريمة الإبادة: أي فعل يُقصد به تدمير جماعة قومية أو عرقية كليًا أو جزئيًا، بما في ذلك فرض ظروف معيشية يُراد بها الفناء البطيء.
ليست هذه المرة الأولى التي يُستخدم فيها الحصار كأداة حرب، فقد عرف العالم هذه الجرائم في لينينغراد، وفي سراييفو، وفي دارفور، ولكن السوابق القضائية الدولية علمتنا أن العدالة قد تتأخر، لكنها لا تموت. ومثلما جلس قادة نازيون على مقاعد الاتهام في نورنمبرغ، ومثلما حُوكم مجرمو رواندا والبوسنة، فإن مرتكبي تجويع غزة لن يكونوا استثناءً، مهما طال الزمن أو تغيرت موازين القوى.
ما يحدث في غزة ليس مسألة خلاف سياسي، بل جريمة موثّقة ضد الإنسانية تحدث يوميا امام انظارمجلس الامن والمؤسسات الدولية ومؤتمرات القمة وامام كل العرب. وكل يومٍ يُترك فيه المدنيون، وخاصة الأطفال والمرضى، يموتون ببطء، هو يوم تضيع فيه قيمة القانون الدولي، وتتآكل فيه ضمائر العالم.
الشكر للأردن شعبا وقيادة ومؤسسات على مساهماتهم المقدور عليها لإحياء الامل لدى اهل غزة.
الصمت العالمي ليس حيادًا، بل تواطؤ، والتجويع ليس سلاحًا تقليديًا، بل إعلان موت جماعي ببطء، يستحق أن يُحاكم من أجله من أمر به، تمامًا كما حُوكم من أمر بالمحرقة قبل أكثر من عدة عقود.