أ. د. خلف الطاهات : الحرية في الأردن .. بين الحقيقة والتباكي المفتعل

في كل مرة تهب فيها رياح الأحداث الكبرى محليا واقليميا، يتسلق البعض موجتها متكئًا على شعارات حرية التعبير، وكأن الأردن قد سدّ الأفق وأغلق النوافذ، متجاهلين ــ عمداً أو جهلاً ــ ما قدّمته الدولة الأردنية من مساحات واسعة لهوامش التعبير، والتي اتسعت لكل صوت وهتاف، ولكل كلمة عبّرت عن تضامن أو رأي، طالما لم تكن على حساب كرامة الآخرين أو صورة الدولة وهيبتها.
وطيلة السنوات الماضية كنا ولازلنا شهود عيان على عشرات المئات من المسيرات والاعتصامات والوقفات لاسباب مختلفة تتعلق بقضايا واحداث محلية واقليمية، شارك فيها فئات المجتع الاردني وكل اطيافه السياسية والفكرية والمجتمعية، وبفضل الله وحكمة الاجهزة الامنية ووعي الناس، لم ترق قطرة دم اردني هنا او هناك في تجلٍ واضح لمنظومة من الحريات العامة التي لا تكتفي بالشعارات، بل تُمارَس بالفعل. أما الفضاء الرقمي، فقد عجّ بمنشورات وتغريدات وتعليقات، حملت في طياتها كل ألوان التعبير والتفاعل، ولم يُلاحق أحد لمجرد أنه عبّر أو دعا إلى موقف، ما لم يخالف الاصول القانونية في أدب التخاطب واسلوب التعبير.
ما يثير الاستغراب أن البعض أراد أن يلفّ الحبل حول عنق الدولة، وأن يستثمر هذه الأجواء لنفث السموم، وخلط الأوراق، تحت عباءة حرية التعبير. أولئك الذين أرادوا أن يحوّلوا هذه اللحظات الوطنية إلى منبر للشتم والتجريح، متناسين أن الدفاع عن القضايا العادلة او المطالب الاساسية، لا يعني أن تكون وسيلته القذف والطعن وتشويه صورة الوطن.
وليس أبلغ مما كُشف عنه مؤخرًا فيما عُرف بـ"قضية تصنيع الصواريخ" من دليلٍ صارخ على أن الاستثمار السلبي في هوامش الحريات قد يُفضي إلى منزلقات خطيرة، تتجاوز سقف التعبير إلى تهديد مباشر لأمن واستقرار الدولة. إنها لحظة كاشفة، تسلط الضوء على الوجه القبيح لخطاب غوغائي انفعالي، تسلل إلى عقول البعض عبر بوابات مفتوحة ــ عن وعي أو غفلة ــ تحت عنوان "حرية التعبير". هذا التحشيد الممنهج، والمُلبّس برداء الوطنية، هو في حقيقته اختطاف متعمد للرأي العام، مارسته فئات استغلّت الأجواء الديمقراطية التي وفرتها الدولة الأردنية، لتؤسس خطابًا مشحونًا بالكراهية والتخوين، مُتجاهلة تمامًا الحدود الفاصلة بين النقد المشروع والتحريض المكشوف.
لقد رأينا كيف تحوّلت بعض المنصات إلى أدوات تضليل، لا تنشر الوعي ولا تطرح الأسئلة، بل تصدر الأحكام وتُشيطن كل موقف للدولة، أمنيًا كان أم سياسيًا، في محاولات مكشوفة لبث الشك في المؤسسات، وتقويض الثقة بين المواطن والدولة. ما يجري ليس مجرد تجاوز لفظي أو زلة قلم، بل مشروع تهييج، تتجاوز آثاره الفضاء الإلكتروني، لتنتج في النهاية ــ كما رأينا ــ خلايا إرهابية تحمل السلاح ضد الدولة، وتستهدف أمن الأردنيين، كل ذلك باسم "الحريات العامة ".
لا يضير الأردن أن يتراجع خطوة أو اثنتين إلى الوراء حين يكون الهدف هو حماية مجتمعه من الانفلات والفوضى، التي إن تُركت دون رادع، ستفتح الأبواب أمام أخطر التهديدات: من ميليشيات طائفية، إلى جماعات إرهابية، وصولاً إلى مرتزقة المخدرات الذين يتربصون باستقراره الحدودي والاجتماعي. فلا معنى لحرية تُطرح في العراء بلا سياج، ولا قيمة لتعبيرٍ لا تحميه دولة قوية، وأجهزة راسخة، ومجتمع واعٍ. إن الحرية التي لا تجد حواضن أمنية تحميها، وتُعززها، وتضبط إيقاعها، تصبح عبئًا على الوطن، لا مكسبًا له.
من هنا، فإن تراجعًا مؤقتًا في مؤشرات حريات الاعلام لا يجب أن يُقرأ بمعزل عن السياق الأمني والسياسي والاجتماعي، ولا عن حجم التهديدات الحقيقية التي تحيط بالأردن من كل صوب. فالدولة التي تسعى إلى الحفاظ على توازنها واستقرارها، لا بد أن تضع أمنها في المقدمة، دون أن تُسقط من حسابها الحريات، ولكن دون أن تجعلها مبررًا للفوضى أو سلاحًا يُشهر ضدها.