بشار جرار : فريق الإدارة وفرقة رئيسها

التريث في قراءة التغيير الأخير في الإدارة الأمريكية أجدى من التسرع في قراءة غير دقيقة قد تفضي إلى استخلاصات غير صحيحة.
إطاحة أول مستشار للأمن القومي، القائد الأسبق للاستخبارات العسكرية الجنرال مايك فْلِنْ، في ولاية الرئيس دونالد ترمب الأولى، تمت في مطلع المئة يوم الأولى لا بعدها، كما حدث مع مايك وولتز الذي آثر ترمب الصبر عليه لحين انقضاء ما يُعرف بشهر العسل المطول بين الصحافة والرئاسة.
لم تكن فضيحة «سِغْنل غيت» القشة التي قصمت ظهر البعير. لكن كثيرين راهنوا يومها على أنها لن تنتهي على خير. كان مرجحا أن كانت ثمة كبش أو «أكباش محرقة أن النائب السابق عضو مجلس النواب الجمهوري الصقوري، والعسكري المقدام الكفؤ وولتز، لا وزير الدفاع بييت هِغْزِثْ سيقع عليه الاختيار. القرار يستند إلى اعتبارات عدة من أهمها عدم حاجة تعيين الأول إلى جلسة استماع وتثبيت من قبل مجلس الشيوخ الأمريكي الذي اضطر نائب الرئيس جيه دي فانس بصفته رئيسا للمجلس إلى استخدام صوته الترجيحي لتثبيت هغزث فيما حصل بالمقابل عضو مجلس الشيوخ الصقوري، السناتور المخضرم السابق ماركو روبيو على ثقة مطلقة من زملائه السابقين الديموقراطيين والجمهوريين، في مجلس الشيوخ. لعل هذه الميزة الأخيرة هي التي دفعت ترمب إلى تكليفه بتولي أعمال مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض خلفا لوولتز الذي طرده جانبا إلى تراتيبية قيادية أدنى ونحاه بعيدا وليس طردا للأعلى أو ما يعرف بعلوم الإدارة وفنونها بالطرد الناعم! حرص ترمب احتراما لمكانة وولتز بتكريم معنوي هو تمثيل أمريكا في الأمم المتحدة، وهو المقعد عينه الذي شغره اثنان ما عمر الودّ بينهما وبين ترامب في ولايته الأولى، ولا في حملتيه الرئاسيتين الثانية والثالثة، وهما سلف وولتز جون بولتون الذي طرده ووبخه مرارا علانية، والمرشحة السابقة للرئاسة التي لم تحظ بدعم الجمهوريين نيكي هيلي، وكانت هي ووزير الخارجية ومدير السي آي إيه -وكالة الاستخبارات المركزية- الأسبق مايك بومبيو أول إسمين سارع ترمب لإعلان استبعادهما من أي منصب في إدارته، رغم دعمهما له في الحملة الانتخابية الأخيرة.
اللافت أن ما جمع بين الثلاثة وولتز وبولتون وهيلي هو تشددهم في دعم إسرائيل، خاصة في تفضيل الخيار العسكري ضد إيران كنظام ملالي وليس فقط ما يخص برنامجها النووي. بصرف النظر عن صدق ودقة «تسريبات» نشرتها واشنطن بوست حول «غضب» ترمب من وولتز بسبب بحثه التفصيلي لخيار ضرب إيران قبل قمة ترامب مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو الأخيرة -الثانية في شهرين في البيت الأبيض- فإن الأمر مرتبط ليس فقط بالسياسات، وإنما الإدارة ذاتها وتلك مسألة شخصية في الصميم بالنسبة لترمب. ربما هذا ما فسر ملامح الذهول على نتانياهو عندما حرص ترمب في التصريحات الخاصة بإيران بأنه هو صاحب القرار وأنه مازال يفضل المسار التفاوضي، طبعا دون استبعاد خيار الضربة العسكرية..
إنها «أقوى امرأة في العالم» بكلماته. أعاد المديح مرارا وبنبرة أعلى وأكثر سخاء في آخر اجتماع وزاري حضره وولتز بمناسبة الحديث عن إنجازات المئة يوم. كان اجتماعا ماراثونيا دام ساعتين على الهواء مباشرة. إنها سوزي وايْلْز أقرب المقربين إلى ترمب التي قادت حملة إعادته المظفرة إلى البيت الأبيض، والأكثر التزاما وليس فقط حماسة لأجندة أمريكا أولا، خلافا لوولتز الذي بقي محسوبا على مؤسسة الحزب الجمهوري التقليدية، وخلافا أيضا لروبيو وفانس اللذين تمكنا كوايلز وهجزث من تغليب الولاء لترامب وأجندة أمريكا أولا على ما سواها من مؤسسات سواء الحزب أو أركان الدولة ومؤسساتها السيادية، أو ما عرفت بالدولة العميقة..
من ضمن «التسريبات» اللافتة حول قرار إطاحة وولتز تأثير مرشحة سابقة فشلت مرتين في تمثيل ولاية فلوريدا بمجلس النواب. إنها «الإنفلونسر» ذائعة الصيت لورا لوومِرْ، المعتدة بكونها من اليمين المتشدد، ومن الوطنيين البيض، ومن المعادين للمهاجرين عموما وللملونين وللإسلام. لوومر التي تم حظرها بسبب ما اتهمت به من «عنصرية وتحريض» على كثير من المنصات وحتى تطبيقات خدمية لتوصيل الطعام من مروجي نظريات المؤامرة، وجدت لدى ترمب «أذنا صاغية». تمكنت من تقديم «ملف متكامل معزز بالوثائق» حول ضرورة إقالة وولتز وكل من أبقى عليهم في مجلس الأمن القومي من تعيينات سابقة، خاصة نائبه المنحدر من أصول صينية ألِكس وونغ.
على ذمة تلك مصادر تلك التسريبات فإن وولتز تعامل مع وايلز وكأنها مجرد إدارية رفيعة المستوى، وليست كعضو فعال في مجلس القيادة أو الإدارة. في الحالين القائد أو الرئيس هو شخص واحد بحكم الدستور الأمريكي، وهو شخص الرئيس المنتخب مباشرة من الشعب بكل ما لديه من صلاحيات تنفيذية تكاد لا تضاهى عالميا، بصفته أيضا قائدا أعلى للقوات المسلحة، بالرغم من الضوابط والمعايير الرقابية الوازنة التي وضعتها الأمة الأمريكية كما أراد الآباء الأوائل المؤسسون، في توزيع السلطة والنفوذ ليس فقط بين سلطات ثلاث ينبغي الفصل بينها، وإنما سائر المجتمع عبر آليات كثيرة من ضمنها جماعات الضغط «اللوبيات» ومراكز القوى والأبحاث والاتصال والتأثير بكل أنواعها.
الخلاصة، أن النظام كان وسيبقى رئاسيا، وميزة ترمب عمن سبقه والتي يختلف الناس حول تقييمها هيالعمل بشكل منسجم مع وظيفته كخادم للأمة الأمريكية وحدها، وكرئيس لأمريكا التي ينبغي أن تبقى أولا. لذلك المسألة قد لا تنتهي بإقالة وولتز وإبعاده، بل بشطب المجلس برمته، لا ضبطا للنفقات بل حدا من الخلافات، ولإنهاء ما يراه البعض مراكز قوى «الدولة العميقة». عادة ما كان دور رئيس المجلس هو الموازنة بين آراء غلب عليها التناقض أو التباين بين وزارتي الدفاع والخارجية، وبين السياسي والعسكري والأمني، وحتى ذلك الأمني ثمة تباين بين أجهزة الاستخبارات، كما نرى في خلافات صارت علنية أو أُريد لها أن تظهر وكأنها علنية خارج السيطرة، بين عدة أجهزة أمنية واستخبارية في كيفية التعامل مع تنظيم إرهابي أو نظام مارق، وهو تباين مدروس يراد به دائما تعزيز قدرات الفريق المفاوض على المناورة والضغط..
ترامب يقود إدارة كفريق، لكن الأهم أنه دائم الحرص على الالتزام العام بمسألتين: الأجندة وهي أمريكا أولا، وجعل أمريكا عظيمة مجددا «ماغا». والولاء الشخصي له ولكل من يثق به ويقربه إليه كسوزي وايلز وستيفن ميللر ودان سكافينو وسباستيان غوركا وكلها أسماء قوية بصرف النظر عن الموقع التي تشغرها الآن. الأهم من فريق ترمب هو فرقته الضاربة إن جاز التعبير، فرقته النخبة التي توصف في العلوم العسكرية والإدارية، برأس الرمح. لذلك يقال «سْبيير هِدِنْغ» عن الشخص المكلف بإحداث الاختراق المطلوب. أيا كانت المهمة المطلوبة، فهي إحداث فارق، وهو ما تحدث عنه فريق ترمب في الجلسة الوزارية المفتوحة الأسبوع الماضي، لكن الأهم هو الاختراق «بْريك ثْرو» فله فقط تكرس العواجل التي تستحق أن تكسر رتابة الأخبار، فتصنع التاريخ، ولا تضيع في أطول دائرة إخبارية برامجية، أسبوعين على أقصى تقدير!
الخبطات الصحفية أو الفرقعات الإعلامية مهمة للرؤساء، لكن للقادة حسابات أخرى لا يتحدثون عنها دائما وربما أبدا..