الأخبار

د. مهند النسور : اليمن.. الجمال الموجوع ووجدان العرب

د. مهند النسور : اليمن.. الجمال الموجوع ووجدان العرب
أخبارنا :  

من لم يزر اليمن، لم يعرف جمال العالم في أصفى صوره.

لقد زرت هذا البلد العظيم مراتٍ عديدة، ورغم أن زياراتي كانت قصيرة، إلا أنني رأيت فيه ما لم أره في أي مكان آخر. في اليمن، لا تجد الجمال فحسب، بل تجد الروح الحية التي تبني وتكافح وتشق طريقها في الصخر. مزيج من الطيبة والنبل، يتماهى مع جباله الشامخة حتى يصيران واحدًا. بين تضاريسه، تجد العزيمة التي لا تلين، والكرم الذي لا ينضب، والإباء الذي لا يلين.

كان اليمن، ولا يزال، أرضًا ملهمة، مليئة بالجمال البسيط والمشاعر العميقة.

فوجئت بقوة المرأة اليمنية، التي كانت تحتل مكانًا مميزا في المجتمع اليمني فالمرأة شريكة الرجل في المدرجات والحقول منذ قديم الأزل وفي قلب المنظومة الصحية. كانت النساء هناك يديرن المراكز الصحية، بمهارة تفوق التصور. والعمود الفقري مع الإشراك المجتمعي الذي يتحدث عنه العالم الآن بينما طبقه اليمن منذ عقود من الزمن. إصرارهن لا يقل على اصرار الرجال على النجاح لا يختلف عن إصرار الجبال التي احتضنت وطنهن. كنّ حريصات، بل شامخات، وكل واحدة منهن تحمل في قلبها رسالة الأمل والصحة.

في اليمن، رغم كل الجراح، يبقى الأمل مشرقًا.

ذلك البلد الذي بدأ نضاله السياسي مبكرًا، مقاوما للاستعمار الأجنبي في زمن كانت فيه أمة العرب ترزح تحت نير الاستبداد، وتبني زيف الحداثة. اليمن عُرف بمواقفه الشجاعة في الزمن الصعب، وكان البلد الذي يرفع رأسه عاليًا في وجه كل ريح عاتية، بل كان دائمًا يثبت في أرضه كالجبل الراسخ.

لا أنسى أول رحلة لي إلى صنعاء، ولا صوت الطبل الجبّاري الذي يعزف على وقع أقدام التاريخ. صنعاء، تلك المدينة التي يسكنها الهدوء والأنين في آن واحد، سوقها العتيق حيث تختلط رائحة البن اليمني بالذكريات، وتنطق الحجارة بقصص الآباء والأجداد.

ومن صنعاء إلى الحديدة، كانت الرحلة الأكثر إثارة.

رأيت البساطة في أبهى صورها، والناس هناك لم يعرفوا الكسل ولا الاستسلام. كان الأمل يلوح في عيونهم، رغم قسوة الحياة، كان الجميع مستعدًا للصمود حتى وإن كانت الطرق شديدة الوعورة. في هذه المدينة الحزينة، كان ثبات الشعب أكبر من أي مصاعب يمكن أن تعترض طريقهم.

ووسط هذا الألم، لم يكن اليمن مجرد بلد ضعيف تحت وطأة الحرب، بل كان صوتًا مدويًا للحرية.

رأيت الاعتصامات تسير بهدوء، والنساء يخرجن كالرجال في المظاهرات. شعب يرفض الخضوع لأي قيد، ويحمل في قلبه حبًا لا يموت.

كانت الرحلة من صنعاء إلى الحديدة بمثابة درسٍ في الصبر. جبالٌ شاهقة، طرقٌ لا تَعرفها الخرائط، ومع ذلك لا يوقفهم شيء. حملات التطعيم كانت تصل إلى أكثر الأماكن صعوبة، حيث لا سيارات ولا طرق ممهدة، بل فقط سواعد ملؤها الإرادة التي لا تعرف المستحيل.

اليمن، رغم الجراح التي مرت به، ما زال ينبض بالحب والفخر.

أشتاق إليك، يا يمن، إلى الجلسات التي تملأ الأجواء بعبق الذاكرة، إلى الساعات الطويلة التي قضيناها معًا في مجالس تتناثر فيها الأحاديث كأنها نغمات موسيقية. إلى العسل الذي يفوح بعبق الأرض، إلى تلك الوجوه التي تعكس نقاء الروح وتسامحها.

اليمن ليس مجرد وطن، بل هو جزء من كياني، هو الحلم الذي لا يفارقني، والأمل الذي يبقى في قلب كل عربي. لا أستطيع أن أقرأ عن العرب أو أذكر حضارتهم دون أن يمر أمامي طيف اليمن في كل سطر، وفي كل كلمة، وفي كل فكرة.

اليمن…

إنه الجمال الذي لا يموت، والأرض التي لا تساوم، وفي مكان آخر لكان حتمًا جنة عدن ــ الراي

مواضيع قد تهمك