أ. د. هاني الضمور : الذكاء الاصطناعي في الجامعات الأردنية: من رؤية ملكية إلى نموذج وطني مستلهم من التجارب العالمية

في زمن تتسارع فيه التحولات التكنولوجية، وتتقلص فيه الفجوات بين الدول عبر المعرفة لا المال، يبرز الذكاء الاصطناعي كأهم أدوات القوة الناعمة في القرن الحادي والعشرين. ومن على منصة التوجيه الملكي، يؤكد جلالة الملك عبد الله الثاني، في كل محفل داخلي ودولي، أن بناء اقتصاد المستقبل لا يمكن أن يتم بمعزل عن الثورة الرقمية، وأن الجامعات الأردنية يجب أن تكون في صميم هذا التحول، لا على هامشه.
غير أن هذا الطموح الوطني يصطدم، ظاهريًا، بواقع جامعي مثقل بالديون، محدود الموارد، ومتفاوت البنية التحتية. غير أن التجارب العالمية تُثبت أن محدودية الموارد لم تكن يومًا عائقًا أمام الأمم التي أحسنت توجيه استثماراتها نحو الإنسان والمعرفة. ولعل في تجربة كوريا الجنوبية أكبر درس يمكن أن يُستخلص.
قبل عقود فقط، كانت كوريا تُصنف ضمن الدول الفقيرة، لا تمتلك ثروات طبيعية، وتُعاني من تبعات الحرب. لكن رهاناتها الحاسمة على التعليم، والتقنية، والبحث العلمي، جعلت منها في غضون جيل واحد دولة رائدة في الذكاء الاصطناعي، والتصنيع الذكي، والتعليم العالي المُعتمد على البيانات. فعلت ذلك لا من خلال المال، بل من خلال الإرادة، والتخطيط، والشراكات الذكية مع المؤسسات العالمية مثل MIT، وكامبردج، وستانفورد.
سنغافورة، نموذج آخر لدولة صغيرة بمساحة محدودة، لكنها صنعت لنفسها مكانة عالمية عبر الاستثمار المدروس في الذكاء الاصطناعي داخل الجامعات، ودمجه ضمن كل قطاع من قطاعات الدولة، بدءًا من التعليم ووصولًا إلى الأمن البيئي. أما الهند، التي تضم ملايين الفقراء، فقد بنت اقتصادًا معرفيًا يقوم على العقول، وجعلت من جامعاتها محاضن للإبداع الرقمي، تُصدّر الكفاءات والتطبيقات إلى كبرى الشركات العالمية.
اليوم، الجامعات الأردنية تقف أمام لحظة مشابهة. لا تملك وفرة مالية، لكنها تملك طلبة من الأكثر طموحًا وذكاءً في المنطقة. لا تملك بنية تحتية متقدمة في كل مكان، لكنها تملك قاعدة علمية قابلة للبناء عليها، ومئات الأكاديميين القادرين على مواكبة أي تطور إذا ما توفرت لهم الأدوات.
الفرصة تكمن في أن توظف هذه الجامعات الذكاء الاصطناعي ليس كتخصص أكاديمي فقط، بل كنظام تشغيل شامل. يمكن للأدوات الذكية أن تُحدث تحولًا جذريًا في كيفية إدارة الجامعات، وطرق التدريس، وتحليل احتياجات الطلبة، بل وحتى في تحسين كفاءة الطاقة والمياه داخل الحرم الجامعي. وهذا التحول لا يتطلب ملايين، بل يتطلب شراكات مدروسة، ورؤية إدارية تستند إلى الابتكار.
مؤسسات عالمية مثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، وجامعة ستانفورد، ومنظمة اليونسكو، تقدم نماذج تعاون ناجحة مع دول نامية، وفتحت أبوابها لبرامج الشراكة، والتوأمة، والتدريب، والدعم الفني. الجامعات الأردنية قادرة على الدخول إلى هذه الشبكات العالمية، ليس كمُتلقي، بل كمشارك فعّال يحمل مشروعًا وطنيًا مدعومًا بتوجيه ملكي، واستراتيجية وطنية رسمت ملامح المستقبل بوضوح.
ما هو مطلوب الآن ليس المال، بل القرار. المطلوب هو أن تعيد الجامعات الأردنية ترتيب أولوياتها، أن تتخلص من الأطر التقليدية التي تحاصرها، وأن تُعلن بجرأة أنها شريك في مشروع وطني للتحول الرقمي والتنمية المستدامة. مشروع يبدأ من الجامعات لكنه لا ينتهي عندها، بل يصل إلى كل بيت ومؤسسة وقطاع.
إن الرؤية الملكية واضحة: لا مجال للركون إلى الأساليب القديمة، ولا مكان في المستقبل إلا لمن يملك أدواته. والذكاء الاصطناعي هو الأداة الأهم في هذا العصر. السؤال اليوم ليس هل نملك ما يكفي من الموارد، بل هل نملك ما يكفي من الإرادة؟ وهل نتحرك كما فعلت كوريا وسنغافورة والهند عندما راهنت على عقولها قبل جيوبها؟
إذا كانت الإجابة نعم، فإن الذكاء الاصطناعي ليس حلمًا مستحيلًا، بل فرصة واقعية تصنع من الأردن قصة نجاح جديدة تبدأ من جامعاته.