بشار جرار : قسمة ضيزى سيبريّاً!

«السيبر» غني عن التعريف! أما القسمة التي أعنيها فلا تعني فقط تقسيم الأمور بل معادلة قسمتها. أيا كان موضوعنا، من الإنصاف ألا تكون تلك القسمة ضيزى، بمعنى جائرة. من معاني ضيزى في لغتنا الجميلة، الجور القائم على الظلم، المرتكز على الغُبن، المستند إلى اعوجاج بنيوي، وظيفي أو حتى ظرفي. سيان، فالظلم ظلمات والعياذ بالله كما يعرف الناس كافة، سيما من تجرّع كأسه العلقميّ في أكثر من تجربة، وفيما تعرف بساعة التخلي، وعلى نحو خاص من ذوي القربى، أيا كانت صلة تلك القربى أو أشكالها، «وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المَرء من وَقْع الحسام المهنّد»، كما قال صاحب أعظم المعلقات أيام «الجاهلية»، طَرَفَة بن العبد..
في المهن الإنسانية، والخدمية في المقام الأول، لا يجوز الامتناع ولا تصحّ القطيعة. تلك التي يسميها البعض إضرابا أو مقاطعة لا تجوز في تلك المهن. لا يعقل أن يقوم طبيب إسعاف مثلا بحجب الخدمة عن غريب أو حتى عن عدوه، وكذلك الحال بالنسبة لرجال إنفاذ القانون ومن يسمون الخط الأمامي كرجال الإطفاء، إطفاء الحرائق أيا كانت مواقعها أو أسبابها أو ضحاياها. الشماتة بالكوارث طبيعية كانت أم بشرية مرض روحي عضال قتّال قبل أن يكون عوارا أخلاقيا بل هو مرض نفسي وعقلي، لأن الخلائق كلها وليس البشر وحدهم يتعاطفون ويتكاتفون في الملمات والأزمات. تحفل برامج الطبيعة والكثير من الوثائقيات التي يظنها البعض لملأ الفراغ أو المساحات البرامجية، تحفل بأمثلة على ذلك من عالم الحيوان والكائنات الحية الدقيقة!
لو أدرك القائمون على خدمة الإعلام كميدان لتقديم المعلومة، لما تفشى الجهل عالميا، ورأيت الناس حتى في أكثر الديموقراطيات عراقة والمجتمعات غنى وانفتاحا، رأيتهم عبر منصات «التناحر» الاجتماعي يتنابزون بالألقاب ويبخّون سموم ما توارثوه عبر الأجيال من ثقافة وخطاب كراهية.
لو أدرك المعنيون بالتواصل والاتصال الجماهيري كارثية تقاعسهم أو تواطؤهم، لكفوا فورا عن العبث بالنار، بتلك «القسمة الضيزى» لتوزيع الأدوار والتأثير بين المُرسِل والمُتلقّي والوسيط «الإرسالي» لتلك الرسالة الإعلامية، وقد صارت منصات الإعلام الجديد وحتى القديم للأسف «سداحا مداحا»، وبات أكثر الناس تفاهة وبذاءة من أوسعهم انتشارا ونفوذا أو عل الأقل القيام بدور المنغّص أو المشتت أو المسيء وبكل جسارة، جسارة من أمن العقاب فأساء الأدب مرارا وتكرارا.
تقرأ خبرا أو ترى صورة أو تتابع فيديو فيه من المحتوى الإعلامي ما يرفع الراس ويفرح القلب، فيندس بين عشرات التعليقات ذات الصلة بالموضوع أو بصاحب الخبر، يندس مريض من الفضاء الأزرق الداخلي أو الخارجي، من وراء الحدود والبعض من قارات بعيدة، فينضح بما فيه من قيح وصديد.
حتى ذلك «الاتجاه» أو تلك «المدرسة» التي عُرفت بسماجتها، بالضحكة البلهاء -ذلك الانطباع الفيسبوكي الافتراضي لوجه ضاحك بسّام، وآخر يقهقه بوجه ضحوك أو ضحّاك- تعمّد إلى ملاحقة أخبارنا ومحتويات منابرنا ومنصاتنا الجادة والوطنية بضغط زر الضحكة البلهاء الخرقاء الصفراء.
وإن كان كل ما سبق ليس بين يدي صاحب القرار لدى مالك المنبر أو الحساب، لاتخاذ ما يلزم توجيها، وما يضبط فنيا تلك النفوس المريضة، فليس أقله الكف عن التساهل مع قوالب معلبة سقطت حتى في البلاد والفضائيات التي روجت لها في الماضي لتسويق خطابها الوطني قبل السياسي والحزبي والفكري.
ما تسمى تعددية أو منح منبر باسمها للآخر حتى وإن كان عدوا لا يحاور بقدر ما يسيء ويحرّف ويحرّض، سواء في إعلامنا أو المشاركة في إعلام معاد أو إعلام يدعي النزاهة، ضمن تلك الآلية في القضايا التي لا تقبل قسمة ولا انقساما، ما هي إلا انتحار أو استنزاف إعلامي على أقل تقدير. حتى وجود أكثر من ضيف أو أكثر من محاور في بعض الحالات -محليا أو خارجيا- ما هو إلا تشتيت للرسالة، وإضعاف لأثرها.
ليس سرا أن تلك المحطات «الحرة والنزيهة» تعرف من تستضيف ومع ممن يتم طرحهم كمحايدين «خبراء» أو معارضين. وتعرف أيضا في أي ملفات تكون الاستضافة. ولها أقسام متخصصة تعرف كيف تروج لما قاله كل من الأطراف المشاركة، فلا تعمل -وهذا حقها- إلا على ترويج ما يوافق أجندتها. طبعا المحتوى الذي انتهت مرحلة إنتاجه وتسويقه الأولى لا يقف هنا، بل تتولى الجيوش الإلكترونية وفيها الكثير من الذباب والدبابير، تضخيم أو تقزيم هذا الرأي وذاك الرأي الآخر. طبعا، ما بين الوجوه الغاضبة والضاحكة والمندهشة في الصور التعبيرية، دخلت طوابير المرتزقة عبر بوابات الذكاء الاصطناعي، ولعبة التسريبات المجتزأة والمفبركة، لتزيد الطين بلة، وتخوض في وحل التشويه والتضليل الإعلامي وتنفخ في كير التدليس والتحريض.
قدمت لكل ذلك بأن من الواجب لا يسمح ولا كذلك المصلحة بالانسحاب من المواجهة ولا بطبيعة الحال إخلال الميدان لذوي الأجندات المعادية والهدامة، لكن استمرار المبادلة ما بين الانكفاء والاشتباك الإعلامي بات غير مجدٍ لا بل وضارا.
آن الأوان لتغيير اللعبة لا قواعد الاشتباك فقط.. فتلك قسمة ضيزى..