المهندس عامر البشير يكتب : العدالة السكانية .. جوهر التخطيط الحضري

في زمن التحوّلات المتسارعة، لم تعد المدينة مجرّد حيّزٍ مادي من أبنية وأسفلت، بل أصبحت كيانًا حيًّا تتشكّل ملامحه من تطلّعات السكّان وقلقهم اليومي، وتوزيع الفرص والموارد، وفي الأردن، حيث تتقاطع التحدّيات الاقتصادية والديموغرافية والبيئية، لم يعد التخطيط الحضري ترفًا تقنيًا أو عملًا إداريًا محصورًا في البلديات، بل أصبح اليوم سؤالًا وطنيًا وأخلاقيًا بامتياز: كيف نعيش معًا؟ ومن يملك حق الحلم في هذه المدن؟.
نحن لا نخطّط بنى تحتية فحسب، بل نرسم مصائر بشر، ولا يُقاس النجاح في التخطيط بزيادة أطوال الطرق أو عدد المباني، بل بمدى العدالة التي تُبنى في أساسات المدينة، ومدى شمولها لجميع سكّانها، لا لفئة متركّزة في العاصمة أو خلف الجدران المُسوَّرة.
التوسّع العمراني قبل العدالة السكانية خطأ تكرّر كثيرًا.
في معظم تجاربنا، توسّعت المدن قبل أن تُرسم لها رؤية شاملة، فازدادت الفجوة بين المركز والأطراف، وبين الطبقات الاجتماعية، وتركّزت فرص العمل والخدمات في العاصمة، فهاجر الشباب من المحافظات بحثًا عن كرامة معيشية، لم نخطّط لمدنٍ حاضنةٍ للعدالة، بل لأسواقٍ عمرانيةٍ تلاحق الاستثمار السريع على حساب التوازن الاجتماعي.
أما "المدينة الذكية"، فلا تُقاس بعدد التطبيقات وشبكات الإنترنت، بل بقدرتها على الإنصات للمواطن.
ليست الرقمنة وحدها هي الحداثة، بل الشفافية، وتوزيع الميزانيات العامة بعدالة، وتقديم الخدمات بناءً على احتياجات الناس لا مصالح القِلّة.
المدينة الذكية بحق هي تلك التي ترى الإنسان قبل السيارة، وتُعيد للشارع مكانته كفضاءٍ للمشاركة والكرامة.
في ظلّ التغيّر المناخي، وشُحّ المياه، وتراجع الأمن الغذائي، لم يعد مقبولًا أن نفصل البيئة عن التخطيط.
البيئة ليست خلفيةً للمشهد العمراني، بل ركيزة لا غنى عنها، أي خطة لا تضع النظام البيئي في قلبها ليست خطة تنموية، بل إعلان مبكر لأزمةٍ قادمة.
من واقع تجربتي السابقة، حين شاركت في إعداد المخطّطات الهيكلية لعمان، لاحظت أن أغلبها لا يتجاوز عددًا محدودًا من السنوات، وكنت أتساءل دائمًا: لماذا لا نرسم رؤيةً للمدينة التي نحلم بها قبل أن نخطّط شوارعها؟
وحين ترأست لجنة النقل والخدمات العامة في مجلس النواب السابع عشر، بدأنا زرع البذور الأولى لرؤية بعيدة المدى، وضعنا حوافز لدمج المشغّلين، ولرفع سوية ومعايير خدمات النقل العام، لفترةٍ محددةٍ يلحقها فترةٍ زمنيةٍ للاستفادة من مخرجاتها، رغم ما واجهناه من مقاومة البيروقراطية وثقافة التفكير قصير الأجل، ولولا أن بعض بنود القانون جُمّدت، وأخرى لم تُنفّذ، لكان ما شرّعناه إصلاحًا بمعنى الكلمة، ننعم فيه اليوم، ومن أراد البرهان، فليقرأ القانون؛ سيجد فيه وثيقةً حيّة وحلول، تعالج كثيرًا من أخطاء سياسات حكوماتٍ متعاقبة.
بلا رؤية، لا مستقبل للمدينة، ولا للوطن
المدن التي تُبنى على ردّات الفعل، لا تصمد طويلًا، والوطن لا يمكن أن يكون عادلًا ما لم تُخطّط مدنه بإنصاف، وتُدار بحكمة، ويُعاش فيها بكرامة.
إذا أردنا أن نخطّط لعام 2040، فليس بعيدًا، لكنه لن يحمل العدالة إلينا إذا لم نبدأ بصناعتها من الآن.
كل شارع لا يقود إلى كرامة الإنسان هو طريق إلى التهميش والضياع.
فلنُعِد طرح السؤال الجوهري: لِمَن تُشيَّدُ هذه المدن؟
فإن لم تكن الإجابة جذرية، قاطعة، لا لبس فيها: لكلّ الناس، فلا جدوى من أعظم الخطط، وإن تزيّنت بالدقة والإتقان.
فالمدينة لا تنهض بالإسمنت والحديد، بل تنهض حين يشعر الجميع أن مصيرهم فيها مشترك، وأنهم ليسوا غرباء في شوارعها، ولا عابرين في أرصفتها، فلنُعِد الإنسان إلى مركز التخطيط، فهو البداية... وهو حجر الأساس.
للحديث بقية...