بشار جرار : تسريبات مئة يوم أم عام؟!

في بلاد العم سام ثمة مئة يوم تتفضّل فيها «السلطة الرابعة» وتتكرّم على السلطة التنفيذية بشهر عسل مطوّل يدوم ثلاثة أشهر تزيد عليها عشرة أيام، «حبّة بركة» !
كان من الأجدى للصحافة الحرة والنزيهة خاصة الاستقصائية منها، أن تمنح الفرصة ذاتها مثلا للسلطة التشريعية، لكن الصحافة «صاحبة الجلالة» تحسب نفسها ممثلة للأمة الأمريكية، فلا تزاحمها في بيتها، الكونغرس بمجلسيه الشيوخ والنواب.
بدأت هذه السُّنّة الحميدة مع الرئيس الثاني والثلاثين للولايات المتحدة فرانكلين روزفيلت المعروف اختصارا بـ «إف دي آر». في الأمثال يُقال ما ترجمته عن الإنجليزية «الانطباع الأول يسود». لكنه مثال لا يصح في الرئاسات الأمريكية، ولا يصح أيضا لمن اقتدى بها عالميا، حيث سرعان ما تَبدّد الانطباع، وبلغ في كثير من الأحيان النقيض لما تم طرحه من أفكار واتخاذه من سياسات وقرارات وإجراءات تنفيذية شاركته فيها السلطات كلها بما فيها تلك الرابعة، الصحافة!
الصحافة نفسها في أمريكا أو دول أخرى من بينها الشرق الأوسط عمدت في السنوات الأخيرة إلى اعتماد سياسة تتبناها عادة الدول الكبرى أو المؤثرة، عبر رفع السرية عن ملفات بعد ثلاثين عاما أو -وهذا الأكثر دلالة- عبر آلية التسريبات الموقوتة لغايات في نفس من أمر بالتسريب، لا من قام به. الأداة تبقى أداة، العبرة في العقل السياسي وربما الأمني الذي يتخذ قرار رفع السرية عن محتوى كان يراه سرا مصانا، دونه الرقاب!
بين انطباع المئة يوم وتداعيات أسرار مئة عام، ما زال الفضول هو المغماز الأول وصنارة صيادي الرأي العام وقنّاصي المزاج العام في العالم كله. وكأن ما يتم تسريبه هنا أو هناك قد أتى بجديد على أولي الألباب. إن كانت أعظم الأمور وأجلها وهي معرفة الخالق سبحانه تقوم على العقل والقلب معا، أيهما تقدّم لا فرق، ما داما في تكامل وتفاضل ينمّي قدرات الأفراد ومن ثم الشعوب على معرفة الحق، فإنه من نافلة القول أن المعروف لا يُعرّف.
من المعروف مثلا أن «من ثمارهم تعرفونهم»، نعرف نظام دولة من ثمار سياساتها الداخلية والخارجية. من المعلوم أيضا أن العبرة في الخواتيم. من اليقين فوق هذا وذاك أن «سيد القوم خادمهم». فلِمَ الحيرة وعَلامَ البلبلة؟ سواء في الشرق أو الغرب (سياسيا)، أو الشمال والجنوب (اقتصاديا)، العالم والكون كله قائم وفق ناموس «ضابط الكل» سبحانه، فهو المهيمن والمسيطر. واقتضت حكمته وسننه في الخلق، أن البقاء للأصلح، وأن النصر وإن طال انتظاره، لقوى الخير والنور وأهل الصلاح والفلاح. كل ما قام على باطل وارتكز على شر آيل للسقوط ومآله الاندثار. القضية الكبرى المركزية، فردية في المقام الأول، تبدأ بمعرفة الإنسان لنفسه، ما له وما عليه وفقا لما هو أبقى وأسمى. الله والأسرة والوطن. مَن لا خير فيه لأي من هذه المقدسات، لا خير فيه وإن زعم وملأ الدنيا أخبارا!
للأسف -وهذا البلاء ابتلي به البشر على اختلاف روابط العقيدة والدم والتراب، للأسف ما زال الإنسان قبل أن يكون ناخبا أو مرشحا، يقيس مئة يوم على معايير مئة عام! البعض ما زال يرى قرارات سياسية أو اقتصادية أو مالية تؤخذ في مئة يوم، على أنها نتاج حرب دامت مئة أو ألف عام أو أكثر.
ثمة هوس بالخلود رغم الحقيقة الساطعة بأن «كل من عليها فان». القرارات ما هي إلا اجتهادات ظرفية، لها ظروفها وشخوصها. من النجاة التعامل مع أحوالنا كما رزقنا «كفاف يومنا»، يوم بيوم، فلا نعيش خيبات ما أخفقنا بتحقيقه رغم حرصنا، ولا تخدعنا أوهام ما نسعى إلى تحقيقه ما لم تكن أحلاما مقرونة بالعمل المثابر، والأهم المستند إلى الرأي الحصيف المتخصص. الجمعية أو الجماعية وهْم، الأصل في الدنيا كلها التميّز لا الانفرادَ فقط. خلقنا الله سبحانه وجبلنا على التميّز الذي تثبته العلوم جيلا بعد جيل، من بصمة الإصبع إلى العين إلى الصوت. حتى النَّفَس له من المكونات والسمات المميزة الفريدة، ما يشكل بصمة بيولوجية، في وقت ظن فيه الناس أن البصمة وراثية فقط.
بعد تسريبات اغتيال الرئيس الأمريكي الراحل جي إف كندي وملفات أخرى قيد النشر في أمريكا من أخطرها ربما ملفات اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر وجزيرة جفري إبستين الذي عثر عليه منتحرا في محبسه، جزيرة الجرائم الجنسية المزعومة بحق القُصّر في نادٍ ظلامي لحفنة من الأثرياء والمتنفذين والمشاهر على مستوى العالم، إلى تسريبات محادثات الزعيمين الراحلين جمال عبدالناصر ومعمر القذافي إلى جلسة تحدث فيها الجنرال الراحل عمر سليمان مدير المخابرات المصرية الأسبق، ثمة الكثير الكثير ليتم دراسته وتمحيصه، لكن الأهم أن نتفق أن كل ذلك ما هو إلا جبل جليد لم يتم إظهار سوى رأسه، وأن التسريب جاء مجتزأ مختارا بعناية، وأن مصلحةً ما يُراد تحقيقها بتلك التسريبات. فهل ننشغل بها أم نبقى في موضوعنا، نركز على شؤوننا ونتقي الله في أولوياتنا. حقا «الحقيقة تحرر» و»الصدق مَنْجاة».. هذا هو تراثنا الروحي، غنيّ عن التسريبات بكل أشكالها وغاياتها! ما «عندنا شي مخبّئ»، ولله الحمد..