د. اميرة يوسف مصطفى : التعليم بوصفه محركًا للتحول الشامل نحو تنمية مستدامة

في عالم تتسارع فيه التحديات البيئية والاقتصادية والاجتماعية بوتيرة غير مسبوقة، لم يعد التعليم ترفا معرفيا أو غاية في حد ذاته، بل أضحى أداة استراتيجية فاعلة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي وبناء مجتمعات قادرة على التكيّف والابتكار، ترسم ملامح المستقبل على أسس من التوازن والاستدامة.
اليوم نحن أمام حاجة ماسة إلى نقلة نوعية في فلسفة التعليم، تجعل منه محركا رئيسيا للتغيير، وليس مجرد وسيلة لتكديس المعلومات. فالفكر الريادي الحقيقي يبدأ من تحويل الوعي إلى ممارسة، ومن بناء عقلية مسؤولة قادرة على استيعاب التحديات وتحويلها إلى فرص إبداعية ملموسة.
إن التحول نحو مجتمع بيئي متوازن ومستدام يتطلب منظومة تعليمية متكاملة، تتجاوز حدود المناهج التقليدية، وترتبط بشكل مباشر باحتياجات سوق العمل، لا سيما في القطاعات التقنية. ويأتي هنا دور المناهج المجربة في دول استطاعت عبر التعليم أن تحقق قفزات نوعية مثل فنلندا، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية، واليابان، وألمانيا، إذ تبنّت هذه الدول مناهج مرنة تركّز على التفكير النقدي والإبداع والعمل الجماعي، إلى جانب الاستثمار في تدريب المعلمين وتبني التقنيات الحديثة.
وفي ضوء هذه النماذج الناجحة، لا بد من تكييف التجارب العالمية بما يتناسب مع خصوصية كل مجتمع، وهنا يبرز التحدي الحقيقي أمامنا في الأردن: كيف نصنع نموذجا تعليميا وطنيا يعكس واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفي الوقت ذاته يستثمر في المستقبل؟
إننا بحاجة إلى تعليم لا يكتفي بتقديم المعرفة، بل يربط التعليم بالإنتاج، ويقود إلى نشوء حركة اقتصادية واجتماعية وثقافية تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الجيوسياسية، والفرص التكنولوجية، والتحديات الديموغرافية، ما يؤدي إلى تحسين مؤشرات الدخل القومي، ويقلل من معدلات العجز والتضخم، ويعزز دور الفرد كمشارك فاعل في التنمية لا كمستهلك فقط.
تأتي الحلول الرقمية هنا كرافعة أساسية لهذا التحول، إذ يمكن توظيفها لتوسيع نطاق التعليم وتحقيق كفاءة في الموارد، وتوفير فرص تعلم مرنة ومتجددة. كما يبرز دور حاضنات الأعمال في تمكين الشباب من ترجمة أفكارهم إلى مشاريع اقتصادية بيئية قابلة للنمو والتطور، خاصة في ظل تقارير تشير إلى ارتفاع معدل الريادة بين الشباب في الأردن، مع تصاعد عدد حاضنات الأعمال، سواء تلك التي تديرها شركات الاتصالات (أورنج، زين، أمنية)، أو البرنامج الوطني لحاضنات الأعمال، أو الصندوق الأردني للريادة.
ويشكل التعليم النوعي المرتبط بالاستدامة حجر الأساس في هذا البناء، تعليم يغرس في الطلبة القيم البيئية، والقدرة على التفكير النقدي، والمرونة في التكيف مع التغيرات، ويجعل من أخلاقيات الممارسة جزءا من مخرجات التعلم. إنه تعليم يربط بين البيت والمدرسة والجامعة والمجتمع، في سلسلة متكاملة تهدف إلى ضمان مستقبل أكثر توازنا وإنصافا للأجيال القادمة.
لقد أكدت الفعاليات التي ارتبطت بالفكر المستدام على أن الاستدامة ليست مسارا منفصلا عن التعليم، بل هي نتاج لتكامل بين التشريعات والمعرفة والحرف اليدوية والريادة المجتمعية. فالمجتمعات القادرة على البقاء والتطور هي تلك التي تستثمر في تعليم يواكب التطور التكنولوجي، ويعزز الشراكات ويصنع حلولا محلية بتفكير عالمي.
وفي هذا السياق تتجلى أهمية الدور الأمني في توفير بيئة آمنة تسمح بازدهار هذه الديناميكيات، ليس فقط من خلال الحفاظ على الوطن، بل أيضا عبر دعم الحوار المجتمعي والمبادرات الشبابية، وتمكين ثقافة المواطنة الفاعلة، فالأمن والتعليم ليسا مسارين منفصلين، بل جناحين لتحليق أي مشروع وطني نحو فضاء التنمية الحقيقية.
إن الحاجة إلى فكر تعليمي ريادي لا ينتظر التغيير بل يصنعه، هو فكر يربط بين القيم والمعرفة والتطبيق، ويقود مسيرة التنمية المستدامة بروح جماعية، تبدأ من غرفة الصف ولا تنتهي عند حدود المجتمع، بل تمتد لتبني وطنا مستداما وآمنا، يرتكز على الابتكار، ويدار بالعقول، ويُبنى بالشراكات.