المهندس عامر البشير يكتب : الأرض ليست عبئًا .. بل حقٌ مكتسب

قراءة نقدية مستقلة لمشروع قانون الأبنية والأراضي لسنة 2025 (الحلقة الثانية).
الضريبة لا تُفرَض على الصمت… بل على الصوت
في جوهر العدالة، لا ينبغي للضريبة أن تُشهَر كسيف في وجه الوجود المجرد، بل أن تُبنى على الفعل والقدرة.
فالعقار الذي لا يُنتج دخلًا، ليس منجمًا ولا كنزًا، بل هو ظلٌ لزمنٍ أكثر أمانًا، وسقفٌ يأوي ما تبقّى من الحالمين.
عندما تُعامل الملكية كرافد خالص لخزينة الدولة، دون اعتبار لإنتاجيتها أو لحال مالكها، فنحن لا نشهد تنظيمًا اقتصاديًا، بل تحوّلًا جوهريًا في العلاقة بين الدولة والمواطن: من الشراكة إلى الهيمنة، ومن الحماية إلى الاستغلال، ومن التحفيز إلى العقوبة، ومن رؤية اجتماعية إلى محض محاسبة مالية.
فالضريبة المفروضة على "مجرد الوجود العقاري" لا تُبنى على دخل، بل على أرشيف الطابو، وتُفرض على الحيازة لا على الإنتاجية، وعلى السكون لا على الحركة.
وهنا، ينحرف النص التشريعي عن هدفه، ليُصبح أداةً لطمس المعنى الاجتماعي للملكية، وتحويل الأرض من فضاء عيشٍ واستقرار، إلى أصلٍ ساكن تُديره ماكينة الجباية.
المواطن بين العبء والتجريم
في ظل هذا النهج، يُصبح المواطن الذي يحتفظ بأرض غير مطوّرة أو منزل مهجور، ضحيةَ معادلة مختلّة: يُطالَب بدفع ضريبة عن دخلٍ لم يتحقق، وبأعباء لم يخلقها.
هذا المسار لا يؤسس لعدالة عمرانية، بل لمجتمع محكوم بالريبة من الدولة، لا بالشراكة معها. حيث تتحوّل علاقة الملكية من أمانٍ معنوي إلى عبءٍ مادي، لا يترك لصاحبه إلا خيار البيع تحت الضغط أو التنازل القسري.
من التقريش إلى التقنين… اختلال فلسفي
الخلل لا يكمن في بنود القانون فحسب، بل في الفلسفة التي تحرّكه.
حين تصبح الغاية من التشريع جمع المال، لا تحقيق العدالة، تنشأ ثقافة "التقريش"—حيث يُقاس القانون لا بمدى إنصافه، بل بعدد الدنانير التي يُتوقّع أن يُدخلها للخزينة.
وبدل أن يُسنّ القانون لضبط العمران أو تنظيم السكن، يُدفع كأداة محاسبة موسّعة، يتباهى بها بعض المسؤولين كإنجازٍ مالي، لا كمشروع إصلاحي.
فتتحول الدولة إلى جابي ضرائب، وموظفوها إلى ضابطة عدلية متجوّلة، لا تحمل خرائط إصلاح، بل دفاتر مخالفات.
صرخة القاصر في وجه التشريع
في قلب هذا الاختلال يبرز مثال القاصر الذي يُطالَب بدفع ضريبة عن عقارٍ لا يملك صلاحية التصرف فيه، ولا يستفيد منه بأي وجه.
فكيف يُفرض على من لا يحق له قانونًا البيع أو التأجير، ولا حتى الاعتراض، أن يُعامَل كمكلَّف، وكأنّه راشد حرّ الإرادة؟.
هذا التناقض لا يمس المنطق فقط، بل يخرق ثلاث ركائز دستورية وقانونية:
1 العدالة الضريبية: الضريبة تُفرض على القادر، لا على العاجز.
2 حماية القاصر قانونيًا: لا يجوز تحميله التزامًا ماليًا دون ولاية أو منفعة.
3 مبدأ التدرّج والعدالة الدستورية: المنصوص عليه صراحة في المادة (111) من الدستور.
وهكذا، تتحوّل الضريبة إلى وسيلة لنزع الملكية بأسلوب ناعم، يعاقب الضعيف لأنه لا يستطيع الرد.
من الاستقرار إلى العزلة
الملكية، كما فهمتها الفلسفة الاجتماعية والقانون الدستوري، ليست ترفًا، بل مرساة أمان ضد تقلبات الحياة.
لكن حين تضطر الدولة مواطنيها إلى بيع إرثهم لسداد ضرائب مجحفة، فإنها لا تفرض التزامًا، بل تمارس اقتلاعًا ناعمًا من الجذور.
تسقط بذلك من موقعها كراعية للاستقرار، وتتبنى منطق السوق بدل منطق الحماية.
حين يصمت الدستور… وتصرخ الحاجة
إن مشروع قانون الأبنية والأراضي لعام 2025، حين يفرض الضريبة على العقار غير المنتج، يخرق صراحة روح المادة (111) من الدستور، والتي تنص على أن الضرائب يجب أن تكون عادلة، متدرجة، ومتوازنة، وألّا تتجاوز مقدرة المكلف.
فأين العدالة، إذا ساوى القانون بين الشقة الصغيرة المهجورة والمشروع التجاري؟
وأين التدرّج، إذا فُرضت الضريبة على الجميع بغض النظر عن القدرة؟
وكيف يُعقَل أن يُكلف من لا يملك دخلًا… أو حتى صوتًا؟
قانون أعمى لا يميّز
القانون الذي لا يفرّق بين القاصر والمضارب، بين المالك البسيط والمستثمر، بين البناء التراثي والمنشأة الحديثة، هو قانون أعمى.
لا يُبنى به وطن، بل يُهدم ما تبقّى من الثقة في العقد الاجتماعي، ويُشعر المواطن أن الدولة لا تراه… إلا حين تجبيه.
الخاتمة: من الجباية إلى الكرامة
حين يصبح القانون سوطًا، والملكية تهمة، والمواطن رقمًا في دفتر، فنحن أمام منظومة فقدت بوصلتها الأخلاقية.
فالضريبة التي لا تُبنى على العدالة، تتحوّل إلى وسيلة للإقصاء الاقتصادي، لا أداة للتنمية.
ما نحتاجه ليس إعادة تسعير المتر المربع، بل إعادة النظر في رؤية الدولة لمواطنيها.
أن نعيد الدستور من هامش التشريع إلى قلبه، لا كنصٍ احتفالي، بل كمرجعية حية تنبض بالكرامة.
فالعدالة لا تُقاس بالجباية… بل تُقاس بكرامة الإنسان.