الأخبار

د. محمد رسول الطراونة : بوح من ذكريات مدخن سابق

د. محمد رسول الطراونة : بوح من ذكريات مدخن سابق
أخبارنا :  

كنت ذات يوم واحدًا من أولئك الذين يمسكون السيجارة بين أصابعهم، يستنشقون الدخان بعمق، ويطلقونه ببطء، وكأنه جزء من هواء الحياة، بل وكانه إكسيرها. كنت مدخنًا لأربعين عامًا، اعتقدت خلالها أن السيجارة هي رفيقي في لحظات الفرح والحزن، في العمل والراحة، في الوحدة والاجتماع. لكنني اليوم، وبعد أن تخلصت من هذه العادة، أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام، لأبوح بذكرياتي كمدخن سابق، وأشارككم بعضًا من الذكريات السيئة التي عشتها بسبب التدخين.

ما دفعني، بل ما استفزني لنبش الذاكرة إعلان نتائج المسح الوطني لانتشار استخدام التبغ بين البالغين في الاردن، التي أطلقتها مؤخرا وزارة الصحة. أظهر المسح أن 38% من المدخنين بدأوا التدخين قبل سن 18 عاما أي وهم في الحرم المدرسي. وهكذا بدأت رحلتي مع التدخين في سن المراهقة، في سبعينيات القرن الماضي، عندما كانت السجائر تُقدم للضيوف على صينية فضية في المناسبات، سواء في الأفراح أو الأحزان. كانت تلك الصينية دائمًا مليئة بأنواع مختلفة من السجائر، أذكر منها «فيلادلفيا » و"ريم» و"جولد ستار» و"نسيم» بنكهة النعناع. كنت بع? انتهاء المناسبة أنقض على الصينية وأختلس سيجارة أو اثنتين من كل علبة، كي لا ينكشف أمري. كنت اعتقد أن السيجارة رمز للرجولة، وكنت أعيش شعورًا بالانتقال إلى مرحلة الاستقلالية. كنت أرى أصدقائي يدخنون، وأظن أنني إن فعلت مثلهم، سأصبح أكثر نضجًا وقبولاً في المجموعة. لم أكن أعلم أن تلك الخطوة الصغيرة ستتحول إلى عادة قوية، تلازمني لعقود.

في البداية، كانت السيجارة مجرد تجربة، شيء أقوم به بين الحين والآخر. لكن سرعان ما تحولت إلى روتين يومي. أصبحت أستيقظ على رائحة التبغ، وأبدأ يومي بسيجارة مع فنجان القهوة. كانت السيجارة ترافقني في كل مكان: في العمل، في الاجتماعات، في أوقات الفراغ، وحتى في لحظات التوتر والقلق، كنت في السفر ابحث عن الفنادق التي يسمح فيها التدخين وان كان مستوى الخدمة فيها متدنيًا. كنت مسلوب الارادة، انساق وراء السيجارة.

في إحدى سني المراهقة، كنت أعاني من سعال شديد لم يختفِ لأيام. ذهبت خلسة إلى الطبيب (العلاوي رحمه الله)، وأخبرني أن لديّ التهابًا في الرئة بسبب التدخين. شعرت بالخوف الشديد، خاصة عندما أخبرني أن التدخين يؤدي إلى أمراض أكثر خطورة مثل سرطان الرئة. ومع ذلك، عدت إلى التدخين بعد أيام قليلة، وكأنني أدفن رأسي في الرمال. مرت السنون والسيجارة ترافقني في الجامعة وبعد الزواج، حاولت التوقف بعد أن رزقت بطفلتي الاولى لكن فشلت، أكره الفشل في كل مجالات الحياة الا فشل التوقف عن التدخين كنت أسعد به حاولت إخفاء عادة التدخين عن ?طفالي، لكنني فشلت. سألتني ابنتي الصغيره ذات مرة: «بابا، لماذا تدخن؟» لم أكن أعرف كيف أجيب. نظرت إلى عينيها البريئتين، وشعرت بالحرج الشديد. كنت أعلم أنني أقدم مثالًا سيئًا لها، لكنني لم أكن قادرًا على التوقف في ذلك الوقت.

كنت أضطر أحيانًا إلى الخروج من المنزل في منتصف الليل في طقس بارد فقط لشراء علبة سجائر. كنت أشعر بالإحباط من نفسي لأنني لم أكن قادرًا على التحكم في رغبتي في التدخين، حتى عندما كنت أعلم أنني أضر بصحتي.

زوجتي كانت دائمًا تشتكي من رائحة الدخان التي تلتصق بملابسي وفي المنزل. كانت تخشى على صحة أطفالنا من التدخين السلبي. كنت أشعر بالذنب، لكنني كنت أعتذر لها وأعدها بأنني سأتوقف «غدًا».

قبل ثلاث سنوات، قررت أن أتوقف عن التدخين. كان القرار صعبًا، والتوقف عن التدخين لم يكن سهلاً. واجهت أعراض الانسحاب: التعرق، العصبية، الرغبة الشديدة في التدخين. لكنني كنت مصممًا هذه المرة. بدأت بقراءة المزيد من المقالات عن أضرار التدخين، ولجأت إلى العلاجات البديلة للنيكوتين والتدخلات السلوكية، والتي ساعدتني كثيرًا في رحلتي.

اليوم، وبعد ثلاث سنوات من التوقف عن التدخين، أشعر بأنني ولدت من جديد. تحسنت صحتي بشكل ملحوظ، وأصبحت أتنفس بسهولة، وأمارس الرياضة دون تعب.

لكن الذكريات تبقى. أحيانًا أتذكر تلك الأيام التي كنت فيها مدخنًا، وأشعر بالندم على الوقت الذي أضعته، وعلى الأضرار التي سببتها لقلبي ولنفسي. لكنني أيضًا أشعر بالفخر لأنني تمكنت من التغلب على هذه العادة، وأصبحت شخصًا أفضل. ولعلها فرصة أن أسدي بعض النصائح لمن أبتلوا بالتدخين فانا أعتبر المدخن ضحية، فقد قالت العرب «إسال مجرب ولا تسال حكيم» ولكن سأنصح كمجرب وحكيم ومدخن سابق وأقول لكل مدخن، أعرف ما تشعر به. أعرف أن التدخين قد يكون ملاذك في لحظات الضيق، أو وسيلتك للاسترخاء. لكنني أيضًا أعرف أنك تستحق حياة أفضل. س?رافقك وفي جعبتي بعض النصائح في رحلة الإقلاع عن التدخين: حدد سببًا قويًا للإقلاع، سواء كان ذلك من أجل صحتك، أو من أجل عائلتك، أو من أجل توفير المال، فإن وجود سبب قوي سيساعدك على البقاء ملتزمًا. استعن بالدعم: تحدث إلى طبيبك عن طرق الإقلاع عن التدخين، مثل العلاجات البديلة للنيكوتين أو الأدوية التي تقلل من الرغبة في التدخين. يمكنك أيضًا الانضمام إلى مجموعات دعم أو التحدث إلى أصدقاء وعائلة يدعمونك.

حاول تجنب المواقف أو الأماكن التي تذكرك بالتدخين، مثل المقاهي أو الأماكن التي يجتمع فيها المدخنون. لا تنسى ممارسة الرياضة – المشي- حيث انه يساعد في تقليل الرغبة في التدخين. كن صبورًا لان الإقلاع عن التدخين ليس عملية سهلة، وقد تواجه انتكاسات. لا تيأس، واستمر في المحاولة.

خاتمة القول: التدخين كان جزءًا من حياتي، لكنه لم يعد كذلك. اليوم، أنظر إلى الماضي بفخر، لأنني تمكنت من التغلب على إدمان التبغ. ذكرياتي كمدخن سابق تذكرني بأن الحياة قصيرة، وأن صحتنا هي أغلى ما نملك. فلنحافظ عليها، ولنجعل كل يوم فرصة لتحسين أنفسنا وحياتنا «التدخين ليس مجرد عادة، بل هو قيد. والتخلص منه يعني أن تعيش بحرية».

*أمين عام المجلس الصحي العالي السابق

مواضيع قد تهمك