د. محمد العرب : الأردن: معجزة الثبات في زلزال الشرق

في قلب منطقة تموج بالفوضى، وتشتعل فيها الحروب، ويعاد رسم خرائطها بالدم والنار، يقف الأردن كمعجزة سياسية واقتصادية واجتماعية عصية على الانهيار. ليس لأنه محصّن بموارد طبيعية هائلة، ولا لأنه يمتلك قوة عسكرية كبيرة ، بل لأنه قائم على أعمدة أعمق من ذلك كله: قيادة حكيمة، شعب صلب، وعقل سياسي يقرأ المستقبل قبل أن يحلّ !
في منطقة تهاوت فيها دول، وتفككت فيها مجتمعات، وصارت العواصم مسارح لألعاب النفوذ الدولي، بقي الأردن واقفاً ، لا كدولة ناجية، بل كنموذج للاستقرار وسط العاصفة.
حين ننظر إلى الخريطة السياسية للشرق الأوسط خلال العقود الأخيرة، نجد أن الأردن محاط بدول عصفت بها الحروب والصراعات الطاحنة. من العراق إلى سوريا، ومن فلسطين إلى لبنان ومصر ، كل شيء كان ولا يزال في حالة مدّ وجزر بين التغيير العنيف والتقلبات العميقة ،ومع ذلك فإن الأردن لم ينزلق إلى الفوضى، ولم يتحول إلى ساحة صراع بالوكالة، ولم يسمح بأن يكون امتداداً لمشاريع الغير على حساب استقراره الداخلي.
السر في ذلك ليس صدفة جغرافية، ولا محض حظ سياسي، بل هو مزيج دقيق من عناصر القوة التي صنعت الدولة الأردنية وأعطتها هذا الصمود الأسطوري. أولها، القيادة الهاشمية التي أدركت مبكراً أن الحُكم لا يكون فقط بالقوة، بل بالحكمة والشرعية التاريخية والمرونة السياسية ،منذ تأسيس الدولة فهمت القيادة الأردنية أن الاستقرار لا يتحقق إلا بالتوازن، فمارست فنّ اللعب على خيوط السياسة الدولية دون أن تفقد استقلال قرارها، وتعاملت مع قضايا الإقليم بعقلانية جعلتها في موقع الوسيط الحكيم بدلاً من أن تكون طرفاً في نزاعات الآخرين.
اقتصادياً، وعلى الرغم من شُحّ الموارد، استطاع الأردن أن يبني نموذجاً اقتصادياً يقوم على الفكر أكثر من المادة. بينما انهارت اقتصادات دول النفط أمام الأزمات، ظل الاقتصاد الأردني متماسكاً، ليس لأنه غني بالموارد، بل لأنه غني بالعقول. فالرهان كان دائماً على التعليم، والاستثمار في الإنسان، وخلق اقتصاد متنوع قادر على الصمود في وجه التقلبات. ورغم كل التحديات، لم يشهد الأردن انهياراً اقتصادياً كالذي شهدته دول محيطة به، ولم يدخل في موجات الإفلاس أو التفكك المالي، بل ظل متمسكاً بنظام اقتصادي مرن، يواجه الأزمات بالصبر والعمل لا بالفوضى والانهيار.
أما على المستوى الاجتماعي، فالشعب الأردني أثبت أنه كيان متكامل من الوعي والصلابة والقدرة على التكيف مع التحديات. الأردنيون ليسوا شعباً يهوى الشكوى أو ينتظر المساعدات بل شعب يدرك أن الصبر والعمل هما الطريق الوحيد للنجاة. في زمن تحولت فيه بعض الشعوب إلى وقود للصراعات الداخلية، ظل الأردنيون متمسكين بالدولة، يرون فيها امتداداً لوجودهم وهويتهم، وليس مجرد سلطة قابلة للتبديل والتغيير حسب المزاج السياسي.
لقد مرّ الأردن بمحطات مفصلية كادت أن تعصف به، من النكبة إلى النكسة، من الحروب الإقليمية إلى الأزمات الاقتصادية، من موجات اللجوء إلى محاولات الاختراق السياسي، لكنه في كل مرة كان يخرج أقوى، لأنه لم يسمح أن يكون ضعيفاً أمام العواصف، ولم يرضَ أن يكون تابعاً في لعبة الأمم. هذا بلد يعرف حجمه الحقيقي، لكنه يملك تأثيراً يتجاوز مساحته وحدوده، بلد لم يُخدع بوهم القوة المطلقة، بل فهم أن البقاء لا يكون بالعنتريات، بل بالعقل.
الأردن اليوم ليس مجرد دولة مستقرة، بل هو درس في البقاء، نموذج في كيف يمكن لدولة صغيرة أن تحافظ على استقلالها في عالمٍ يبتلع فيه الكبار الصغار. إنه البلد الذي لم يغرق في حروب الآخرين، ولم ينحنِ أمام عواصف السياسة، ولم يساوم على استقراره مهما كانت الضغوط. هذا هو الأردن، معجزة الاستقرار وسط زلزال الشرق.