أ. د. ليث كمال نصراوين : دبلوماسية الملك في لقائه الرئيس ترامب
![أ. د. ليث كمال نصراوين : دبلوماسية الملك في لقائه الرئيس ترامب](/assets/2025-02-13/images/281134_1_1739419504.jpg)
تابع العالم بأسره مجريات اللقاء الصحفي الذي جمع جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي أظهر فيه الملك دبلوماسية سياسية عالية انعكست على تصريحاته الرسمية لوسائل الإعلام. فقد تجلّت حنكة الملك وذكاؤه في المفاجأة التي أعلن عنها للرئيس الأميركي بأن الأردن سيستضيف ألفي طفل فلسطيني من قطاع غزة للعلاج. فهذا الخبر يتعلق بمبدأ دولي ثابت وراسخ هو مصلحة الطفل الفضلى وحقه في الحياة والعلاج، بالتالي لم يكن بإمكان الرئيس الأميركي أن يتعامل معه بطريقة اعتيادية، فاضطر إلى الترحيب والتهلي? بهذا المقترح الملكي بشكل انعكس ايجابا على باقي مجريات اللقاء.
في المقابل، وعلى الرغم من بعض الإجابات التي أعاد فيها الرئيس الأميركي التأكيد على مقترحاته السابقة بأن نقل الفلسطينيين من قطاع غزة إلى دولة عربية مجاورة فيه مصلحة عليا لهم وأنه سيعمل على تحويل القطاع إلى منطقة استثمارية، إلا أنه كان هناك تحول ملموس في موقف الرئيس ترامب بأن أعلن أنه لن يقوم «بشراء قطاع غزة»، وإنما تحويله إلى منطقة تجارية أفضل، وأن المساعدات الأميركية للأردن لن يتم تعليقها على أي موقف رسمي له، وهو تصريح سيحُسب عليه في أي قرار مستقبلي يمكن أن يتخذه بهذا الخصوص.
كما تجسدت دبلوماسية الملك في مداخلاته المحدودة وإجاباته القصيرة على أسئلة الصحفيين الذين وجهوا معظم أسئلتهم إلى الرئيس ترامب، وذلك في محاولة منهم لفهم تأثير هذه الزيارة على موقف الرئيس الأميركي من نقل الفلسطينيين من غزة إلى دول عربية مجاورة.
وفي معرض رده على أسئلة الصحفيين، جاء الجواب الملكي واضحا وصريحا بأنه سيفعل ما هو الأفضل لبلده، والتي تعني أنه سيراعي مصلحة الأردن العليا ورغبات شعبه في أي قرار يتعلق بمصير الشرق الأوسط. فهذه الكلمات المختصرة تحمل بين طياتها معاني كثيرة تشمل رفضا مباشرا لأية حلول أميركية قد تُفرض على الأردن تتعارض مع مصالحه الوطنية وأمنه واستقراره. فالشعب الأردني بكافة أطيافه قد عبّر عن موقفه الرافض لمقترحات الرئيس ترامب، وهو الأمر الذي رصدته الإدارة الأميركية بأجهزتها المختلفة دون أدنى شك. فيكون ما قصده جلالة الملك من عبار? «الأفضل لبلادي» هو الرفض القاطع لمقترحات التهجير.
ويبقى ما يميز لقاء الملك بترامب أنه قد أعطى للقضية الفلسطينية بُعدا عربيا ولم يعتبرها قضية أردنية محضة، فهو قد أعلن أنه سيقوم بزيارة إلى المملكة العربية السعودية للتباحث في المقترحات الأميركية، وبأنه أيضا يجب انتظار الموقف الرسمي المصري من هذا الموضوع.
وهنا يظهر وجه آخر من أوجه الذكاء والفطنة الملكية؛ فقد أقحم الملك مصر الشقيقة في مجريات الحديث وفي معرض رده على ما أعلنه الرئيس ترامب بأن مصر ستتعاون معه وستقبل بتخصيص أراض مصرية لاستقبال الفلسطينيين من قطاع غزة. ليأتي الرد المصري سريعا وخلال دقائق بعد انتهاء اللقاء الصحفي بأن مصر ترفض المقترح الأميركي وبأنها تستنكر هذه الدعوات الأميركية لها بتخصيص أراض مصرية للفلسطينيين. وقد وصل الاحتجاج المصري إلى تأجيل زيارة الرئيس السيسي التي كانت مقررة لواشنطن لأجل غير مسمى.
إن هذه الارتباط بين الموقفين الأردني المصري يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن التنسيق بين القيادتين كان على أعلى المستويات، وأن جلالة الملك قد تحضّر بشكل كامل للقائه الرئيس ترامب. فهو قد تعمّد الإشارة إلى الموقف المصري في تصريحاته الصحفية، وهو على يقين تام بأن مصر داعمة له، وأنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أي تصريحات أميركية تمس أمنها وسيادتها الوطنية.
ومن المواقف الأخرى لدبلوماسية الملك أنه قد طلب من الرئيس الأميركي التروي لحين الاستماع للموقف العربي الموحد من أية مقترحات تتعلق بالحرب في غزة. فهذا التصريح يعكس رغبة الملك في الاعتماد على العمل العربي المشترك، وبأن التعامل مع الأردن ومصر يجب أن يكون من خلال غطاء عربي إقليمي من شأنه أن يقوي هاتين الدولتين ويُضعف أي محاولات لفرض حلول فردية على دول بعينها.
إن الهدف الملكي من الإشارة إلى الموقف العربي الموحد التأكيد على أن أي قرار يتعلق بغزة يجب أن يكون قرارا عربيا مشتركا، وأن القضية الفلسطينية ليست شأنا أردنيا خالصا، بل هي قضية قومية عربية تخص الشعب الفلسطيني بالدرجة الأساسية، وهو الأمر الذي ينسف أي ادعاءات بأن الأردن يعمل بشكل منفرد ويعقد صفقات سرية خاصة به لاستقبال الأهل من قطاع غزة.
وأخيرا، فقد تجلت دبلوماسية الملك وحنكته السياسية من خلال عدم الانجرار وراء التصريحات الأميركية الاستفزازية، فهو لم يأت إلى البيت الأبيض ليسمع كلاما مختلفا من الرئيس الأميركي الذي على ما يبدو قد تورط في تصريحاته السابقة ولم يعد بإمكانه التراجع عنها بسهولة، بقدر ما كان يهدف إلى اسماع العالم الموقف الأردني الرافض لمقترح التهجير. وهي المهمة التي قام بها جلالة الملك على أكمل وجه، دون أن يتجه نحو التصعيد مع واشنطن أو يقدم ردود فعل عاطفية متسرعة قد تؤثر سلبا على مصالح الأردن الحيوية. فالرئيس الأميركي قد بدأ اللقا? بوصف جلالة الملك أنه رجل عظيم، وهو بالفعل كذلك.
ــ الراي
أستاذ القانون الدستوري - عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
laith@lawyer.com