الأخبار

جمال اشتيوي يكتب : ذكريات ليست مؤلمة

جمال اشتيوي يكتب : ذكريات ليست مؤلمة
أخبارنا :  

تنام عمّان على أيدي أبنائها السبعة ،تلقي رأسها قريرة العين على صدرجبل القلعة،لترقب العابرين إلى دفئها ،والخارجين من سرورها ،إلى بيوتهم محمّلين بالفرح،لا تسألهم عن جنسياتهم ،أو من أي البلاد آتوا ،فكل من يعبر حبها يصطاد طمأنينته،ويمضي إلى هواه .

هي حبيبتي ،جذبتني إليها مّذ كنت لا أعرف مباهج غيرها من المدن،فأنا إبن مخيم يقطنه اللاجئون الفارون من كل شيء إلا مصيرهم،وحبهم لبلاد يحسرها النهر عنهم ويحسرهم عنها،ريثما يمتليء بأحلامهم ،فتحملهم إليها دون قوارب .

والحبيب يتعلق قلبه بأولى المؤنثات ،كانت إمراة أو مدينة ،لافرق فكلتيهما وطن،ونبض يمد الروح بالحياة والأمل،كنا نبدأ"معا"التطواف في المدينة ،نمر مسرعين في يوم ظهيرة من امام مخبز صلاح الدين ، تطلب مني أن ندلف إليه ،لنأكل ما تشتهي من بيض وخبز ،فأقول : لا يؤكل إلا مغمسا برائحة الفجر .

نستوقف السرفيس ،فيقف ،وقد أصدر اصواتا تشبه أنين المحتضر امام دار الشروق للنشر والتوزيع ،فنعبر إليها ،لتخطف أبصارنا عناوين شتى ،كتب الدين والدنيا ،فقه وشريعة ،مسرح ،سينما ،شعر ونقد (...).

يطل علينا جميع المؤلفين من أرفف المكتبة ،الساذجون منهم، والمتبحرون في علمهم ،فيقفز رلاون بارت وفرديناند دوسيسير بكل وقارهما المعرفي ،عن ثالث رف في اليمين،يعرضان علينا كتبهما في علم الدلالة ،يكتشف البائع شغفي بها ،فيرفع السعر،وما أن أسأله عن عناوين أخرى ،ليتأكد أني أحد المخبولين الذين يمكن له أن يسلبهم أموالهم بعرض ما هو جديد عليه من الاصدارات ،فأؤكد له فرضيته ،بأسئلة تحمل لهفة كبيرة عن النقد والرواية والقصة.

يحاذيني البائع بالمسير ،ويعرض لي عناوين روايات عديدة ،منها ما كتبه راوئيون عرب ،أمريكيون ،روس (...)،أسمع همسا من بعد أمتار ،أتطلع إليه ،إنه سيد الشعر ،محمود درويش وإلى جانبه غسان كنفاني ،يتناجيان بصمت العارفين، عن آخر القصائد،وأجمل الروايات،بينما ناجي العلي ما يزال يرسم بريشته دون أن يعير للمشهد كله انتباها.

أصحو،على صوت فتى المكتبة ،أتريد هذه الروايات يا أستاذ؟ ،أجيبه ،بعد برهة قصيرة ،أعطني الأعمال الكاملة "لدرويش ،وكنفاني "،فما زال في القلب ولع بالصبا ،أتناول منه ما أريد،وبسعر يرضي الطرفين ،ليكتشف أني لست أبلها بعد بما يكفي لأشتري كل ما يريد.

تلكزني فتاتي المتخيلة ،لنتابع سيرنا إلى مطعم القدس ،ونقلّب صفحات ما اشترينا من الكتب ،قبل أن نتناول طعاما نشتهيه للإقامة عند عتبة الذكريات، كغيرنا ممن يتدفقون إلى ماضيهم في هذا المكان.

مواضيع قد تهمك