اللواء محمد البدارين : ما هو الاردن!

لطالما ، طرح سؤال ما هو الأردن ، سواء في أوراق مكتوبة أو في أحاديث ارتجالية ، وبات مفهوما سلفا ، أن هذا السؤال يستهدف استدعاء رواية بعد الأكل ، مضمونها الحقيقي نفي الوجود الاردني جملة وتفصيلا ، واجترار جواب مسبق مفاده أن الأردن مجرد كيان سياسي ما ، تشكل بطريقة ما ، وأنه بحكم ظروف ما أصبح يضم مجموعات سكانية مشتتة ، قد تعتبر شعبا في حالة الإضافة لعبارة شتى الاصول والمنابت ، وكانت هذه الرواية ولا تزال قابلة للاستعمال من قبل أطراف عديدة ، لأسباب تفسيرها العلمي الموحد في كل مكان وزمان ان العدو أو الغريم او المنافس ، يلجأ عادة لخلق صورة سلبية عن عدوه أو منافسه او غريمه ، بهدف الانتقاص من قدره والتقليل من شأنه والتغلب عليه.
وفي حالة الأردن ، كان الأستاذ محمد حسنين هيكل ، في وقت مبكر ، أبرع الخالقين للصورة السلبية عن الأردن والتقليل من شأنه والتشكيك بحقيقة وجوده ، ومن حسن التدبير والاتقان آنذاك ، أن الأردن اكتفى للرد عليه ، باستخدام الموسيقى والألحان بصوت سلوى العاص وآخرين ، حتى راح الاستاذ احمد سعيد يتهجم بحنق وتوتر على اذاعة سلوى حسب وصفه ، فتأكدت عمان في حينه أن اللحن الأصيل كان يكفي..
وبمرور الزمن المملوء بالأحداث المتلاحقة والأوضاع المتغيرة ، ستظهر فواعل جديدة ذات أبعاد أكثر خلطا وتمويها ، وفي أجواء مشحونة بمشاعر مساءلة الذات العربية المشروخة بعذابات الانكسارات والانكفاءات والانحدارات والبحث عن الأمكنة والعناوين تحت ضغط المفاوضات و المحاصصات ، وانتشار حالة الاهتزاز الإقليمي تحت الضرب والحصار والعقوبات ، وسقوط الأهداف المطاطية شبه الوهمية ، سيجد الناس في عموم المنطقة أنفسهم في مواجهة الاسئلة الذاتية المهملة والاحتياجات الضرورية الحرجة ، التي سيتبين بشكل مؤكد انها كانت أكبر وأصعب مما كان في الحسبان ، وسيتزامن كل ذلك مع ضغط تحولات عالمية اختلفت فيها الموازين والمعايير ، بشكل سمح بكل فجاجة باستضعاف كل ضعيف وتجريده من كل ما تستدعي قوانين السوق تجريده منه.
وفي المشهد الأردني بالتحديد، ستشهد البلاد مجادلات ومناظرات سياسية علنية وحساسة ومتوترة ، برز منها ، على سبيل المثال ، مناظرة اعلامية حساسة بين عبد الهادي المجالي وطاهر المصري ، واقدام عدنان ابو عودة على نشر كتابه الأمريكي (الأردنيون والفلسطينيون والهاشميون) وسيطرح ناهض حتر سؤاله الشهير من هو الاردني ، وسيصدر نتنياهو كتابه الرهيب مكان تحت الشمس ، فيما نشر شيمون بيريز كتابه العسلي (الشرق الاوسط الجديد) وفي لحظة تخبط سيترقى سؤال ما هو الأردن لكي يطرح علنا في المستويات العليا في البلاد ، وفي وقت لاحق ، ستتكاثر اصدارات كتب المسؤولين السابقين وندواتهم ومراجعاتهم ، حتى بات بوسع أي مهتم أن يجد ما يكفي من الأدلة في تلك الكتب والمراجعات لإدانة المنظومة السياسية الحاكمة في البلاد منذ خمسين عاما ، وسينتدب عبد الرؤوف الروابدة نفسه بنفسه لمهمة الدفاع على جميع الجبهات ، ولو بطريقة فليسعف النطق ان لم تسعف الحال.
وخلال كل تلك الحقبة المستمرة حتى الآن ، لم يكن الاسلاميون بعيدين عن المشهد المتوتر بل كانوا جزءا منه ، وبقدر ما توفر لديهم من وضوح علني صاخب في الحضور، كان لديهم قدر من الغموض ، حتى وصفت بنيتهم التنظيمية بأنها تشبه شبكة عالمية مشهورة بغموضها ، وبينما كانت التنظيمات الحكومية تخضع للمزيد من النقد والضغط والكشف ، كانت كل المجموعات الأهلية والمدنية والحزبية والنقابية ، تتحاشى الخضوع لحسابات النتائج والمساءلة.
وكلما تزايدت الحاجة العمومية لحسابات الأهداف والنتائج ، التي باتت الذات الوطنية المتعبة تضعها في أعلى سلم الأولويات ، كانت قوى المجتمع المدني بما فيها القوى الإسلامية ، تتماهى مع التنظيمات الرسمية في استخدام الأساليب الدعائية التبريرية ، وتفر من عالم المساءلة والحساب المحدود ، الى عالم العموميات المطاطي واللامتناهي ، فتحذف حسابات ما يكون ، وتستبدلها بحسابات ما ينبغي أن يكون ، المعلقة في باب التمنيات المنتظرة والاحتمالات المتخيلة ، في حين أن حركة الواقع الحقيقي تجري دائما وفق ما هو كائن لا وفق ما ينبغي أن يكون.
ومن زاوية الواقع ، يمكن الاستنتاج بقدر كبير من الموضوعية ، أنه لم يعد من المفيد تضييع مزيد من السنين والأعمار في مجادلات حول طروحات كانت قابلة للانهيار مرارا أمام قوة عناصر الواقع وحقائقه وحركته ومجرياته ، وفي مجريات الواقع الحقيقي ، لا شيء أهم من حركة الناس وحضورهم وسعيهم ، ومما لا شك فيه على الاطلاق ، ان هوية الناس ليست إلا نتاجا طبيعيا لحركتهم واحوالهم وانفعالاتهم وعلاقاتهم بالامكنة والاشياء والازمنة ، بكل ما في هذه العناصر من تلقائية وعمق ، لا يمكن أن تصمد أمامها كل عوامل التدخل المخطط له.
وبناء على ما توفره هذه المعطيات ، لم تعد طروحات الدعاية الصهيونية الدينية المتمركزة حول تمجيد الذات اليهودية ونفي الآخر ، تستحق اي اهتمام زائد ، فهي بقدر ما باتت تبالغ في طروحاتها الاسطورية العنصرية واللاعقلانية ، بقدر ما باتت تفقد أكبر قدر من الاحترام والموثوقية على نطاق عالمي واسع ، ويبدو ان هذا التناسب الطردي سيظل قابلا للتوسع والتأثير ، وستجد اسرائيل نفسها قريبا مضطرة للاختصار من عنجهيتها المتمادية.
ووفق ما تتيحه الاحتمالات المتوقعة ، فان لا شيء يدعو للقلق الزائد في الاردن ، فالذي عليه ان يقلق وهو قلق فعلا ، هو ذلك الذي لا يزال يبحث في خرائب الامم الغابرة عن قطعة اثرية حقيقية او مزورة تثبت انه مر من هنا في يوم ما ، فيما لا يحتاج الاردن لإعلان التعبئة ولا التجنيد الإلزامي ، فلديه ما يكفي من عناصر القوة المحترفة والمقتدرة ، وبمنظور متحرر من القلق ، تبدو حاجة الاردن الحقيقية الان هي في الاتصال بالداخل الاردني اتصالا منظما محدد الاهداف ، لمعالجة الوضع الاقتصادي ، مع ما يستدعيه ذلك من اجراءات واسعة وقصيرة المدى في المجالين الاداري والاقتصادي ، اجراءت تدعم كل القطاعات الانتاجية ، انتاجا وتسويقا وتصديرا ، وتفتح كل الحدود والابواب امام كل من يعمل في اي مجال ، مع ما يلزم ذلك من قرارات ادارية وامنية تلغي او تختصر كل ما يعيق حركة الناس وسعيهم ومعاملاتهم ، فالاعتبارات الامنية على اهميتها يمكن الاستجابة لها بصورة فعالة بدون ان يكون ذلك مبررا لاعاقة الحركة في كل الاتجاهات.
وبناء على كل ما سبق ، وفي المعنى النهائي للأمور ، فإن الإشارة تكفي ، كما كان اللحن يكفي ، ودائما كان في الأردن جواب ومعنى وسيوف..