رشاد ابو داود : عطر الورد ورائحة الخبز

في محيط بيتنا كان قبل سنوات ثمة مشتل واحد يعرض الورود والنباتات في مساحة متوسطة، تسر الناظرين وتجذب الذين يؤمنون أن «الوردة ابتسامة الصباح وعطر المساء». بعد شهر افتُتح مشتل آخر قريبًا منه، وبعد سنة أصبح في حارتنا أربعة مشاتل. إنها روح المنافسة المنتشرة في بلادنا. فما أن ينجح محل خضار أو مخبز أو مطعم صغير أو محل تصفية حتى تجد محلاً آخر بجانبه أو قريبًا منه.
«اطلبوا الرزق عند تزاحم الأقدام» .. صحيح، لكن لا تتنافسوا وتحتلوا الأرصفة فتذهب بضاعتكم سدى. الأرصفة وجدت خصيصًا للمشاة الذين بسببكم يضطرون للمشي في الشارع المخصص أصلاً للسيارات. فإما أن تتوقف حتى يمر المشاة أو تدوس بعضهم أو تقتله، لا سمح الله.
مع تزايد عدد السكان يحدث الازدحام، هذا أمر طبيعي، لكن من غير الطبيعي أن تترك الجهات المعنية للتجار الحرية بانتهاك حرمات الشوارع وتلويث وجه المدن بمشاهد لا تُسرّ. ومن غير الجائز أن يكون محل ملابس وبجانبه بائع شاورما أو صيدلية بجانبها محل مواد بناء.
لقد حدث تحسن في التنظيم عما قبل، فلم تعد ترى مطعمًا بجانبه بنشرجي أو محل ملابس نسائية وبجانبه محل فلافل. لكننا بحاجة إلى تنظيم أكثر دقة. وقد لعبت المناطق الصناعية التي تجمع كراجات تصليح وتجليس ودهان السيارات دورًا مهمًا في التنظيم.
أشعر ببهجة كلما رأيت انتشارًا أكثر لمشاتل بيع الورود والزهور في بلادنا. قد أصبحت ثقافة تعبر عن الإحساس بالجمال، والجمال يهذب النفس ويرتقي بالذائقة الجمعية للشعوب.
أفرح عندما أرى رجلاً متقاعدًا أو سيدة في منتصف أو في الربع الأخير من العمر تنزل من سيارتها وتتجول في المشتل لتخرج بمجموعة من الجوري والقرنفل والزهور الملونة. الشرفات لم تعد مجرد حديد وألمنيوم صامت، بل حدائق معلقة مزينة بالورد وبرائحة القهوة الصباحية وشاي العصر المنكه بالميرمية أو بالنعنع تقطفه من أصيص على الشرفة.
ورد ذكر الورد في القرآن الكريم: «فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان» – سورة الرحمن. ولم يخلُ ذكره من كلام الحكماء والأدباء والشعراء. يقول جلال الدين الرومي: «العطر يبقى في اليد التي تعطيه». نزار قباني كتب عن كبرياء الورد: «الورد لا يطلب الماء، إما أن يُسقى بدون طلب أو يذبل ثم يموت بهدوء». وعن دور الورد في الوفاء يقول جبران: «وردة واحدة لإنسان على قيد الحياة، أفضل من باقة على قبره».
وهل تكتب عن الورد فيما الدم يُستباح كل يوم في غزة التي كانت تصدر الورود إلى أوروبا، وفيما يتعرض الناس للقتل والتجويع والتعطيش في أبشع الجرائم ضد البشرية على مدى العصور؟!
أجاب محمود درويش عندما قال: «نحن نحب الورد لكننا نحب الخبز أكثر، ونحب عطر الورد لكن السنابل منه أطهر».
غدًا تعود غزة كما كانت وتنبت شقائق النعمان مكان دماء الشهداء.