خيمة في مهب الريح.. وأحلام معلّقة

إعداد: محمد سويلم - آيات بكر - تصوير: محمد الحياني
يعيشون في خيمة صغيرة مصنوعة من الخيش والبلاستيك، بالكاد تحميهم من برد الشتاء ولهيب الصيف.
خيمة بنيت في مهب الريح.. بأرض ليسو أصحاب أمر فيها ولا قرار.
في قرية زيزيا بلواء الجيزة.. تعيش الشابة العشرينية (نورة) أم هاشم مع زوجها الذي يكبرها بقليل، هذا الرجل المسكين، وطفليهما الصغيرين، هاشم، الذي لم يكمل عاميه بعد، وجود، التي لا تزال تستكشف الحياة بعمر الأربع سنوات.
زوجها، شاب بسيط يخرج كل صباح ليعمل في أحد مصانع المنطقة، يتقاضى أجرا لا يكفي تغطية إلا القليل من حاجاتهم الأساسية؛ ورغم جهده، يبقى العوز رفيقهم الدائم.
داخل هذه الخيمة، لا تجد سوى القليل من الأثاث المتواضع وبعض الأدوات التي بالكاد تفي بتسيير حياتهم اليومية.
مكانٌ ضيق، يضيق أكثر مع الأحلام الكبيرة التي لا تجد لها متسعًا بين جدرانه الهشة..
عندما وصلنا إليهم.. كانت هذه آخر ساعاتهم في هذا المكان، على وشك الرحيل إلى مكان آخر، لا يبعد سوى مئات الأمتار، لكن الرحيل في حياتهم ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر.. إنه انتقال من أمل إلى آخر، من حلمٍ ضائع إلى أملٍ جديد.
والد أم هاشم كان عندها، جاء من الأغوار ليساندها، ليساعد في حمل المتاع القليل..
كانوا قد نصبوا خيمة في المقر الجديد، ويقومون بالإنتقال إليها بالتدريج.. وعلى مدار بضعة أيام.. ينقلون ما استطاعت أيديهم حمله مرة تلو مرة.. حتى عربة الأطفال أصبحت وسيلة لنقل حاجياتهم البسيطة.
فراق واشتياق
تتحدث أم هاشم لنا عن ظروفهم الصعبة وعن هموم أثقلت قلوبهم بالأحزان..
وسط هذه المشاهد المؤلمة، يعلو صوت أم هاشم.. يرتجف بصوت مكسور حين تتحدث عن ألم الفراق، فقد أرسلت طفليها إلى أهلها في الأغوار، بعيدا عن قسوة البرد وقلة وسائل التدفئة.
لم تكن أما قاسية.. بل كانت أما تحمل في قلبها نار الشوق كي لا يعاني صغيراها من قسوة الحياة.
ومع استمرار الحديث، تصمت قليلا وتنظر إلينا والأمل يبرق في عينيها، وتخبرنا عن حلمها بمنزل صغير.. مجرد غرفة أو اثنتين؛ على تلك الأرض البعيدة التي اشتروها بثمن زهيد، 800 دينار فقط.. في منطقة الحلابات، التي تبعد بعض كيلومترات شمال الطريق المؤدي لقضاء الأزرق، حيث الصحراء تمتد بلا أفق للنهاية، وحيث الأمل يصبح أغلى من الذهب.
أم هاشم في الرابعة والعشرين من عمرها، متزوجة منذ خمس سنوات، وخلال هذه المدة لم تعرف الاستقرار، فمنذ بداية أمرهم وهم في حل وترحال، بحسب قولها.
يعاني زوجها من تمزق في اربطة الركبتين،
والرباط الصليبي الأمامي والخلفي، ويحتاج إلى تدخل جراحي لاجراء عملية في أقرب وقت.
ابنيها هاشم وجود، لا يحتملان البرد القارس، لذا اضطرت إلى إرسالهما لمنزل والديها في منطقة الأغوار؛ ذات الطقس المعتدل في فصل الشتاء.
وتقول أم هاشم أنها لم تحتضن طفليها منذ بداية الشتاء، فهي لا تستطيع أن تبقيهما في خيمة، لا يقي قاطنيها من الصقيع سوى ستارة من خيش رقيق، وهي تدرك بحسب تعبيرها، أن هذا الحل مؤقت، تماما مثل كل شيء في حياتها.
ترحال مستمر
وقبل أيام من رحيلهم، أخبرهم صاحب الأرض التي يقيمون خيمتهم عليها، أنه ينوي بيعها ولا يستطيع إبقاءهم فيها لوقت أطول، فالمشتري يريد استعمال الأرض واستثمارها ولا يتناسب معه بقاؤهم.
بالنسبة إلى أم هاشم فقد اعتادوا هذا الأمر، فمالكي هذه الأراضي يسمحون لهم بالبقاء طالما لم يحتاجوا لاستصلاحها أو زراعتها أو بيعها..
ومع كل رحيل، إن كان المقر الجديد ليس ببعيد، يقومون بحمل ما استطاعت أيديهم حمله من متاع مرة تلو أخرى، ونقله سيرا على الأقدام.
معاناة تأمين تكاليف المعيشة
على صعيد أخر تشرح كيف أنها كلما سمعت أن جمعية ما تقدم المساعدات تتوجه لها مباشرة، وأنها طرقت أبواب جمعيات كثر، بحثًا عن أي مساعدة، لكن غالبا ما تجد جوابا واحدا، أن باب التسجيل قد أغلق.
وتقول أنها لم تعد تكلف نفسها عناء المحاولة، فقد أدركت أن الانتظار على أبواب التسجيل المغلقة، لا يقل قسوة عن انتظار الرحيل..
وتشير إلى أن زوجها يعمل في أحد المصانع الموجودة في المنطقة، براتب «260» دينارا (قبل رفع الحد الأدنى للأجور)، وتستطرد بأن 100 دينار من راتبه تذهب لرعاية والديه، وبعد اقتطاع ضمانه وتكاليف طعامه في العمل، لا يبقى لهم سوى 130 دينارا، وهي بحسبها، بالكاد يغطي نفقات الحليب ومستلزمات طفليهما.
الكهرباء ومياه الشرب
أما ما يخص مياه الشرب؛ فهي ترى أنها تكاليف أخرى ومعاناة تضاف إلى ما سبقها، فالمتر الواحد يكلفهم نحو خمسة دنانير، لأن صهاريج المياه لا تقوم بتعئبة الماء إلا بكميات كبيرة.
أما الكهرباء، فحظهم منها في الليلة ساعتين توفرها وحدة إنارة تعمل على الطاقة الشمسية، وبعد انتهاء شحنها، يغرقون في ظلام دامس، ويصبحون عرضة للقطط والكلاب التي تجد طريقها إلى الخيمة، كما وصفت.
قطعة أرض وأحلام معلقة
تكشف أم هاشم بأنها جمعت قبل سنوات هي وزوجها ما استطاعا ادخاره من عملهما في المزارع، ليشتريا قطعة أرض بمساحة الدونم تقريبا، في مكان بعيد بقرية الحلابات، أملين في أن تكون هذه الخطوة بدايةً للاستقرار.
معتبرة أن قطعة الأض أسست لحلم كبير بقي يحيا في أنفسهم لسنوات، في أن يأتي يوم يجدون من قد يتبرع لهم لبناء غرفة أو اثنتين، لكن بحسبها فإن الحلم يتلاشا كلما مرت الأيام، وأنه يبقى معلقا إلى أجل ربما يصبح بعيد المنال..
مداهمة مياه الأمطار
في كل شتاء، يُعاد ذات السيناريو.. الأمطار تتسلل من كل زاوية ومنفذ، تُغرق الخيمة كما تُغرق قلوبهم في الألم، فيهرعون لصنع مجرى هنا وآخر هناك، لعلهم يُبعدون عنهم عذابات المياه الباردة التي تتغلغل حتى العظم.
وتروي معاناتهم في هذا الفصل، عندما تتسلل المياه إليهم، فتقف هي وزوجها لساعات يحاولان إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ويفتحان طرقا للمياه لتمر بها وتخرج من خلالها إلى خارج الخيمة.
فحين تمطر، تداهمهم المياه وتغرق خيمتهم، ما يضطرهما للسهر معظم الليل، يرفعان حاجياتهما القليلة يبعدانها عن المياه، ومجرى السيول.
أثاث بسيط
وكما هو حال غالبية سكان الخيام، فالكثير من أساسيات الأثاث التي نعرفها لا تتوفر لديهم، ليس في مقدمتها التلفاز فقط، إنما أيضا البراد، جهاز حفظ الأطعمة، وليس أخرها فرن الغاز..
حتى مدفأة، تقول أم هاشم أنهم لا يستطيعون إبقاءها مشتعلة لأكثر من ساعة صباحا، ومثلها في المساء، حتى يتم ترشيد استهلاك الوقود، الذي لا مقدرة لهم على توفيره كل الوقت.
ربما لا تُختصر المعاناة في كلمات.. وهذه الحكاية لا تروي فقط قصة أم هاشم، بل تروي حكاية الصبر، الأمل، والتشبث بالحياة رغم قسوتها.
الخيمة تبقى شاهدًا صامتًا على أيام تمر ببطء.. على رياح تهب بلا هوادة، وأمطار لا تعرف الشفقة.. ومع كل ذلك، يظل الأمل ينبض في قلوبهم.. لعل الغد يحمل لهم ما لم تستطع الأيام أن تمنحه حتى الآن.
الرأي الإنساني.. نافذةٌ للأمل
تُطلق الرأي خلال هذا الشهر الفضيل، مبادرة إنسانية، تحمل الأمل لمن هم بأمسّ الحاجة إليه.. مبادرةٌ نأمل منها أن تضيء دروب الأسر الفقيرة، والأفراد الذين يعانون ظروفًا صعبة...
مبادرةٌ تسعى لأن تشكل حلقة الوصل بين أصحاب الخير.. وبين من ينتظرون يد العون. وتفتح باب الإحسان أمام القلوب الرحيمة، أسميناها: «الرأي الإنساني.. نافذة للأمل»..
من قلب الميدان.. فريق «الرأي الإنساني» ينقل إليكم قصصًا حقيقية.. مشاهد من الواقع، تعكس آلامًا.. وتحمل طموحاتٍ تنتظر من يُحققها..
نحن هنا.. لنكون جسرًا بين من يحتاج.. ومن يستطيع.
معًا، نستطيع أن نُحدث فرقًا.. معًا، نجعل التكافل الاجتماعي أسلوب حياة.. معًا، نجعل «الرأي الإنساني» نافذةً للأمل.
انتظرونا كل أحد وثلاثاء وخميس خلال شهر رمضان المبارك.. وكونوا أنتم الخير الذي يُنير حياة الآخرين.
التكافل المجتمعي.. «سراج» يضيء عتمة العيش
في شهر رمضان المبارك، تتجلى معاني التكافل الاجتماعي، ويسعى المحسنون وأصحاب الأيادي البيضاء إلى تلمس حاجات المعوزين والمساكين..
في هذه الأيام الفضيلة، تنتعش مظاهر الخير وتزدهر دروبه، ويظهر العطف والعون بأبدع صورهما بين أفراد المجتمع، وعلى الطرف الآخر يترقب الضعيف وصاحب الحاجة حصته في هذا العطاء..
ونحن هنا نسلط الضوء على بعض الحالات، ليس الكل، ولكل حالة نطرحها، يوجد حالات مماثلة لها، وثمة مشاهد عديدة من أشكال العوَزِ والحرمان، لكننا نطرح هنا مثالا مما وصلنا إليه بالبحث والتحري في سلسلة حلقاتنا هذه..
لأجل ذلك نفتح هذه النافذة، لتكون كمن يدل على الخير، وسعيا إلى تعزيز المسؤولية الاجتماعية، واستنهاض همم المقتدرين والميسورين، وتحفيز مبدأ التكافل الاجتماعي لدى أفراد ومؤسسات المجتمع كافة.
ونأمل أن تكون نافذتنا الإنسانية، بمثاية دعوة لشركات ومؤسسات القطاع الخاص؛ إلى التفاعل الإيجابي مع ما تنشره «الرأي» من قصص إنسانية خلال هذا الشهر الفضيل، الهدف المباشر من نشرها تحقيق ما يتطلع إليه أصحابها من عون وإغاثة.
فالتكافل المجتمعي يسير جنبا إلى جنب، بالتوازي مع ما تقدمه الحكومات، ممثلة بأذرعها ومؤسساتها المعنية في هذا الشأن.
ولا يُقتصر هذا العمل الرعوي في جميع الدول -حتى المقتدرة اقتصاديا منها- على موازنة الدولة فقط، فالشركات ومؤسسات القطاع الخاص، وكذلك الأفراد، شركاء في تدعيم ومساندة مجتمعاتهم..
وفي ظل إتساع دائرة الفقر وقلة الإمكانيات، وعطفا على ضعف الموازنة ومحدودية موارد الدولة، فإن وزارة التنمية الاجتماعية، منفردة، لا قدرة ولا إمكانيات كافية لديها، لتقوم بهذا الدور وحدها..
هنا يأتي دور التكافل الاجتماعي الذي ننشد، فلا مناص عن تعاضد المجتمع بمكوناته ومؤسساته؛ لحمل مسؤولية الإسناد والمؤازرة..
ونذكّر أنفسنا أن الخير يزدهر بالعطاء.. وأن اليد التي تُساعد اليوم، ترسم غدًا أكثر أملًا لمن يحتاج. ــ الراي