د. صبري ربيحات يكتب : بزورية ..

على قائمة "menu" الضيافة لغالبية الزيارات العائلية يوجد اطباق مدورة صغيرة او صحون اكبر من الحجم العادي مقسمة الى اجزاء يجري ملؤها بالفستق والقضامة المغبرة والناعمة وبزر البطيخ والقرع والفستق الحلبي والكاجو وكل ما يطلق عليه بالمكسرات.
هذا الكم المتنوع المخلوط او المتجاور من المواد التي يحتاج الكثير منها الى الاشتباك مع كل حبة يجري تناولها هو المادة الأساسية للتسلية فما ان يبدأ الضيوف بتناولها حتى تتفتح شهيتهم للحديث للتغطية على اصوات ورشة التكسير والطحن وحركات التنقيب والعزل والاختيار والابعاد التي يمارسها الضيوف وهم يتجولون بين الصحون بحثا عن البذور والانواع التي يفضلونها داخل الصحون المتجاورة.
في ايام طفولتنا كانت قلية القمح والحمص المسلوق وبعض المنتجات الموسمية تقدم في مثل هذه الزيارات في حين يترك البزر والتبزير للشباب وجلسات الصبايا اللواتي اقتربن من المرحلة التي تؤهلهن لدخول الاقفاص الذهبية.
اليوم اصبح التبزير فعل يمارسه العرب على سبيل التسلية ومع اني لا اعرف كمية استهلاك مجتمعنا من هذه المواد الا اني لا اقوى على احصاء اعداد المحامص ولا البزوريات التي تنتشر مثل نجوم الممرات على كل درب من الدروب التي نسلكها.
في عملية التبزير "إزالة القشرة عن النواة" يندمج الاشخاص اكانوا افرادا او جماعات بعملية ميكانيكية تشبه الى حد كبير اندماج الطيور في تنقيب حبات القمح او الشعير الملقى على الارض والفرق بينهما ان الناس يضعون البذور في اطباق ويتناولونها حبة حبة.
في هذه العملية التي تبدو بسيطة رغم تعدد خطواتها يتناول المبزر البذرة "البزرة" في اليد اليمنى ويوجهها لتصبح في وضع يكون سطحها عموديا واطرافها على قواطع الاسنان "القواطع" ليسهل كسر غلافها وتحرير النواة ليجري سحبها نحو الداخل لهرسها ومضغها وتذوقها.
نواة بزرة القرع لا يزيد وزنها عن واحد على عشرين من الغرام ومع ذلك تجلب لمتذوقها الرضا وتحتفي بها خلايا التذوق وتعامل بحفاوة وهي تمر عبر محطات الجهاز الهضمي.
يعلم الجميع أن التبزير عمل من اعمال التسلية وان كل البذور لا تغني ولا تسمن من جوع ومع ذلك يستمر الجميع في تقديمها ونقبل عليها بشهية ونمضي مئات الساعات ونحن نبحث عن انواعها وخلطها وفصفصتها.
في الشرق والغرب يستخدم العالم البذور لاستخراج الزيوت واستخلاص العقاقير ومستحضرات التجميل واكسير الحب ولا يكترثون لفصفصتها على الطريقة العربية.
كل هذا ليس لأن لديهم الوقت لذلك بل لأن للوقت معنى وقيمة فهو أثمن من ان يمضيه الفرد بهذه التسلية التي لا شبيه لها غير السفسطة التي اشغلت فلاسفة الاغريق والهتهم عن الوقوف في وجه من اجتاحوا مدنهم.
عدد الجن الذين يمكن ان يقفوا على رأس الدبوس تمرين عقلي ممتع لكن لا جدوى له. كما أن الفصفصة قد تساعد على الفضفضة التي قد تريحنا مؤقتا ليس لإيجاد حل لمشكلاتنا بل بابقاء افواهنا وايدينا مشغولة بعمل لا قيمة له وتصرف عيوننا عن الواقع لتحدق في المجهول.