الأخبار

بشار جرار : الإخبار بالإبهار مصيره الاندثار

بشار جرار : الإخبار بالإبهار مصيره الاندثار
أخبارنا :  

زمان، أيام الأبيض والأسود، كان الصوت رديئا والإضاءة سيئة قياسا بمعايير اليوم الفنية. حتى التمثيل، لم يكن ذلك الأداء المتمكّن كما هو الآن سواء في السينما العالمية أو العربية. إلا أن القصة كانت جميلة قريبة من قلوب الناس، ولها جمهورها الحريص على متابعتها دون خاصية التلوين، حفظا لهيبتها وألقها.

دون الاقتراب من حساسيات الدعاية والإعلان، مازالت قنوات الأبيض والأسود رائجة بجميع اللغات، وكأنها دليل عالمي على وحدة الإنسان، من حيث الوجدان السوي الذي لا يستقيم معه سوى الصدق، لأنه وحده القادر على الإقناع المستدام، وليس ذلك الإخبار بالإبهار الذي قطعا مصيره الاندثار هو وتقنياته وأدواته ومشغّلوه!

العجيب الغريب -ولم يعد وحده الشيطان هو الغريب- العجيب إصرار البعض على إعادة إنتاج البارود والعجلة! كمن يدورون حول أنفسهم، حتى تنفجر فقاعات الأداء الكاذب عند أول اختبار. حتى يكون الكلام على بساط أحمدي، أضرب مثالا من ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. كيف تمكن الناجي للتو من جلطة دماغية أثّرت حينها على طلاقة لسانه وصفاء ذهنه، الديموقراطي جو فيترمان من هزيمة منافسه جرّاح القلب النجم التلفزيوني ماميت (محمد بالتركي) أووز، الجمهوري المدعوم من السيدة الأولى السابقة والحالية مِلانيا ترمب شخصيا. القصة ليست شياكة ولا حتى لباقة ولا طلاقة، القصة قصة حضور يلامس وترا، والأفضل أوتارا حساسة لدى الناخبين. القضية هنا أن تعرف من هو جمهورك، وبالتالي من هم ناخبوك، دون أن تنسى مموليك ومؤازريك، خاصة أولئك المخلصين، بفتح اللام وكسرها.

لم يلبس فيترمان البدلة مع ربطة عنق كعضو مجلس شيوخ إلا يوم الاستماع لكلمة بنيامين نتانياهو في جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس العام الماضي! كذلك فعل إيلون ماسك في اليوم ذاته.. كلاهما يرتديان في عنقيهما قلادة للتذكير بعمل كل شيء لضمان تحرير جميع الرهائن، خاصة من مزدوجي الجنسيتين الأمريكية والإسرائيلية. حتى في حفل التنصيب، صدم فيترمان الجميع واختار أن يقف تحت القبة أثناء أداء دونالد ترمب للقسم وهو على ضخامة جسمه ب «شورت وهُدِي» ذلك الجاكيت ذي القبّعة المتصلة به والذي ارتبطت صورته في أفلام الإثارة بالخارجين على القانون، أو أقله الخارجين على الأعراف، أو الرياضيين والناس «الكوول» الرايقة، كما يقال بالعامية!

سقت مثالا واحدا فقط لأهمس في أذن زملاء سابقين وحاليين وربما لاحقين، بأن عماد الرسالة، الصدق والبساطة. وأنه إن كنا ننتقد بلا هوادة -من سنين- نظام ملالي ومن يبررون حكمتهم الزائفة وبلاغتهم الخائبة بأنهم «حوزة (هيئة أو مرجعية) صامتة» مقابلة «ناطقة» ألتمس السموحة من لحاهم الغانمة وأقول، لا وألف كلا..

دور الإعلاميّ هو الكلام والكتابة واستخدام كل شيء وفي جميع الأوقات والظروف، دوره ومسؤوليته وواجبه هو الاتصال والاشتباك الإيجابي وتوظيف الدنيا كلها لخدمة القائد، المعلّم، الرئيس، المدير وأجندته كما يراها هو بالكيفية والنوعية التي ترضيه.

تلك معضلة ثقافية وليست فقط إدارية، كما أبدع بالتشخيص أول رئيس وزراء في العهد العبدليّ الميمون، دولة عبدالرؤوف الروابدة، بارك الله في عمره. صحيح مشكلتنا «إدارية»، و»إعلامنا مرعوب» ربما في مرحلة أو مراحل ولّت، أو ما زالت تراوح مكانها، لكن قضيتنا في الأصل روحية أخلاقية ثقافية، من هو السيد؟ من هو الخادم؟ وكيف يفهم الجميع قولا وعملا أن «سيد القوم خادمهم»..

سادتنا، ملوكنا، الهواشم والأشراف، شهد القاصي والداني بسمو أخلاقهم واتضاعهم وتفانيهم، لكن الأداء الذي نراه جميعا في قطاعات عدة -ليس الإعلام وحده- يشير إلى أن المشكلة في روح الفريق أحيانا، وأحيانا أخرى في قائده، وأحيانا في بعض أو جميع أعضائه.

بالعودة إلى المثال من بنسيلفانيا المتأرجحة التي صارت ولاية جمهورية في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، يتضح أن الجمهوريين تمكّنوا من إحداث اختراق كبير عكس نتائج الاختراق السابق الذي تحقق مما أسفر -وهذه هي السياسة-عن تحالف الناجح الأخير مع الناجح السابق لما فيه خير الولاية والبلاد رغم تضارب أجندتي اليمين واليسار. لم يتردد فيترمان من قبول دعوة ترمب فزاره في قصره في منتجع مارلاغو بولاية فلوريدا بعيد الإعلان عن فوزه، وبعدها دعمه -دون تردد أو تحفّظ- في قضايا كثيرة جدلية إلى الحد الذي أثار حفيظة بعض قواعده الانتخابية، خاصة من ذوي الأصول الشرق أوسطية.

يظن الناس أن الأصوات والأموال تمنح فقط في القضايا الكبرى، كالقضية الفلسطينية مثلا، فيتناسون مدى تأثر الناخبين الأوائل والمتأرجحين والمستقلين بقضايا لا تخطر على بال الساكنين في أبراج عاجية أو المتمترسين في عقلية الحصن. من تلك القضايا التي حسمت انتخابات كثيرة، الموقف من تجريم أو تقنين مواد لا تذهب العقل فقط بل تدمّره تدميرا هو وإرادة وجسم الإنسان واقتصاد العباد والبلاد! ليت المتعالين في تشخيصهم لبعض الملفات وزعمهم الانفراد بالقدرة على «تقدير موقف» هنا وهناك، ليتهم يترجلون من «الليموزين» وأي ركوبة مظللة النوافذ، ويحلون عقدة الربطة حريرية كانت أم كتّانية، ويمشون على الأرض هَوْنا، علهم يرون الناس على سجيتهم فيسمَعون ويُسمِعون، ويا دار ما دخلك شر، لا من دخيل ولا وكيل! الإعلام في الأصل خدمة، شركة ومحبة، لا هبشة ولا بهورة ولا فزلكة! خلي «الحكي أردني» (أردنيا)، وليسامحنا سبويْه باللهجة المحلية، والمحلية جدا، حتى وإن كانت بالإنجليزية المحكية أيضا بما فيها للأسف -وهذا هو الواقع- بالمصطلحات والمفردات «الشعبية» ولا أقول «السوقية». شئنا أم أبينا تلك اللغة التي تصنع المزاج قبل الرأي العام في الشارع، تلك اللهجة التي يتكلم بها الناس في اللقاءات الجماهيرية التفاعلية كما في «تاون هول مييتِنغ» وليس بالضرورة كما في «جورج تاون» وما بلغ مقامها العالي من جامعات ومراكز أبحاث «على الراس والعين»، لها احترامها لكنها لا تقدّم ولا تؤخّر في التعبير مثلا عن اللاءات الملكية والدفاع عنها باللغة التي يفهمها من يؤثر على صاحب القرار الذي يعدّ قبل وصوله إلى البيت الأبيض والكونغرس لكسب انتخابات التجديد النصفي، بعد أقل من عامين. كما قالها صانع محتوى من الإخوة السعوديين الشهيرين في عالم الطبخ، «عينَكْ ع الصّوووت»!

مواضيع قد تهمك