الأخبار

أ. د. هاني الضمور : التوازن المفقود: الحكمة التاوية والرؤية القرآنية في عالم مضطرب

أ. د. هاني الضمور : التوازن المفقود: الحكمة التاوية والرؤية القرآنية في عالم مضطرب
أخبارنا :  

في عصر يتسارع فيه كل شيء، حيث تحكمه المنافسة المحمومة، والقلق المتزايد، والانغماس في الماديات، تبدو الحاجة إلى الحكمة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. العالم اليوم يعيش على إيقاع متوتر، تهيمن عليه النزاعات السياسية، والضغوط الاقتصادية، والتكنولوجيا التي رغم تسهيلها للحياة، جعلت الإنسان أكثر اغترابًا عن ذاته. في خضم هذا الصخب، يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن للإنسان أن يجد السلام الداخلي في عالم لا يعرف السكون؟

وسط هذا التيه المعاصر، تبرز الحكمة التاوية كفلسفة تدعو إلى التوازن والتناغم مع قوانين الطبيعة، حيث لا صراع عبثي، بل استسلام حكيم لتيار الحياة. وفي المقابل، نجد في القرآن الكريم دعوة أعمق لهذا التوازن، ليس فقط مع الطبيعة، بل مع الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها. في زمن الانقسام والصراع، حيث يهيمن منطق الغلبة والتنافس، يأتي مبدأ «الين واليانغ» التاوي ليذكرنا بأن لا شيء في الكون يسير على وتيرة واحدة، وأن التوازن هو مفتاح البقاء. هذه الفكرة تتجسد في الآية القرآنية: «,وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ»، وكأنها تحذر العالم اليوم من طغيان قوة على أخرى، من اختلال النظام الطبيعي الذي ينعكس في أزمات بيئية، واقتصادية، وإنسانية تعصف بالكوكب.

السرعة الهائلة في الإنتاج والاستهلاك حولت الإنسان إلى ترس في آلة ضخمة لا تهدأ، وجعلت القلق والاكتئاب وباء العصر الحديث. هنا يأتي مبدأ «وو وي» التاوي، الذي يدعو إلى «اللافعل الفاعل»، إلى السير مع الحياة بدلاً من المقاومة العنيفة لها، وهو ما يتناغم مع الفكرة القرآنية العميقة في التوكل على الله، حيث السعي مطلوب، لكن دون أن يتحول الإنسان إلى عبدٍ للقلق. قال الله تعالى: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»، فهل يمكن للعالم اليوم أن يتعلم كيف يخفف من قبضته على كل شيء، كيف يسير وفق قوانين الكون بدلاً من محاولة التحكم المطلق فيه؟

الاقتصاد الرأسمالي الحديث يعزز فكرة الاستهلاك اللامحدود، حيث يُقاس النجاح بامتلاك المزيد، وحيث المادية أصبحت دينًا عالميًا جديدًا. لكن التاوية تدعو إلى البساطة، إلى الاكتفاء بالقليل، إلى العودة إلى الأصل والطبيعة. وفي الإسلام، نجد هذه الحكمة في مفهوم الزهد، ليس رفضًا للنعم، بل تحررًا من عبوديتها. يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.» وفي القرآن، نجد الدعوة نفسها: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا»، وكأنها تذكير بأن الإنسان يستطيع امتلاك الأشياء، لكن لا ينبغي لها أن تمتلكه.

ومع تطور التكنولوجيا، لم يعد الإنسان يتأمل كما كان يفعل من قبل. أصبح مغمورًا في تدفق لا نهائي من المعلومات، لكنه فقد القدرة على التفكر العميق. في الصين القديمة، كان التاويون يجلسون لساعات يتأملون الجبال والأنهار، بحثًا عن فهم أعمق للحياة. وفي الإسلام، التأمل ليس مجرد وسيلة للراحة، بل طريق إلى الحقيقة، كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. هل يستطيع الإنسان المعاصر، الغارق في الشاشات والإشعارات والتنبيهات المستمرة، أن يستعيد لحظة صمت، لحظة تأمل تعيده إلى ذاته؟

الحكمة، سواء جاءت من الشرق أو من الوحي الإلهي، ليست رفاهية فكرية، بل ضرورة وجودية في عالم ينهار تحت وطأة اختلال التوازن. فكما يحتاج الجسد إلى الغذاء، تحتاج الروح إلى السكون والتأمل، تحتاج إلى أن تتناغم مع القوانين الكبرى للكون، لا أن تقاومها بلا جدوى. ربما آن الأوان للعالم أن يتعلم من الحكمة القديمة، ألا يركض بلا توقف، ألا يستهلك بلا وعي، ألا يحارب بلا سبب، بل أن يجد طريقه إلى ذلك التوازن العميق، حيث السلام ليس مجرد غياب للصراع، بل حضور لمعنى أسمى، معنى كان يعرفه الحكماء قديمًا، ويفهمه أولئك الذين لا يزالون يبحثون عن الحقيقة اليوم. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك