بشار جرار : وَيْحَهم الحُسافة.. لا حَسافةَ عليهم!

هذه السطور هدية ما وراها جزية للعاثر حظهم في الترجمة، خاصة من طاح حظهم في الترجمة الصحفية، وعلى نحو خاص أكثر العاجل منها، وعلى نحو أدق الخطأ العاجل إن أتى الاعتذار عنه في صيغة انسحاب آجل مدته وعدته ستة أيام قبل راحة آخر أيام الأسبوع!
«مش عيب عليهم» قالها سيدنا معاتبا أولئك الذين يتلقون «توجيهات» وأردفها توضيحا «تعليمات» من الخارج. أولئك الحُسافة لا حَسافة عليهم، ليس منّا من أعان الغريب علينا. هم في الداخل جغرافيا لكنهم خارج التاريخ، بخروجهم على المعروف يقينا لدى الأردنيين قولا وعملا، انتسابا وانتماءً. الوطنية الأردنية واحدة لا تجتمع فيها إلا الخصال الحميدة التي تأبى نفوسها الحرة الانحدار بأي اسم تسمّت به أو صفة تلفّحت بها، إلى مستوى الذيول التابعة لرؤوس خارج الحدود، بعضها من وراء نهر وبحر، كل حسب دوره في أجندات غير أردنية المنشأ والمنتهى.
من جميل ما تميز به الإعلام الأردني بأدواته الناعمة والخشنة «العين الحمرا»، تلك الأفلام الوثائقية الترفيهية، التنويرية والتعليمية التي تمت ترجمتها دوبلاجا بالصوت أو كتابة على شريط أسفل الشاشة. كان أحد المعلمين الكبار، من ذوي الفضل والسبق الذين تشرفت بالخدمة في معيتهم، من أنصار الترجمة الصوتية «الدوبلاج»، وكان يعلمنا ويعمل على إعدادنا سياسيا قبل إعلاميا. السياسة ما كانت تعني إلا تربية وطنية، زمان أيام «المجلس الوطني الاستشاري» الموقّر في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. من الأمثلة التي ضربها أستاذنا القدير المميز في «معلميته» القائمة على القيادة بالمثال، هو ذلك الفارق بين كتابة كلمة «ويحك» مثلا، وبين قراءتها بصوت جهوريّ عبر الدوبلاج مترجمة من الإنجليزية إلى العربية. لا بل كان ميّالا إلى تنحية العربية الفصحى جانبا انسجاما مع الموقف الدرامي في ذلك الفيلم أو البرنامج الوثائقي، حيث من الأفضل القول بعيدا عن مقام القراء والسامعين الكرام، «سنحك» يا البعيد! عوضا عن الاكتفاء بكتابة كلمة ويحك! وإن كان ثمة فرق بين الأسلوبين، فأمام المنسحبين والمعتذرين، فسحة من الوقت لتعلم اللغات وإتقان اللهجات قبل الخوض في ترجمة ونقل كلام القادة في حدث مفصليّ كان العالم وليس الأردن أو الشرق الأوسط فحسب يترقّبه لاعتبارات عدة.
أخذتني دروب الحياة إلى رويترز مرارا وإلى تومبسون فاونديشن مرة فريدة. مما تعلمناه من مدرسة رويْترز تحديدا، أنها تُؤثِر دائما الدقة على السرعة. وقد كنت دائما منحازا لرويترز بالقياس بالأسوشييتد برس وفرانس برس. طبعا ما كنا لنعرف سوى «بترا» وكالة الأنباء الأردنية، فيما يخص الخبر الأردني، رسميا كان أم أهليا.
رغم ذلك الانحياز لا ننسى حرص أساتذة المؤسسة الأم العريقة صاحبة الفضل التلفزيون الأردني، حرص المدرسة العريقة على اعتماد النص الأصلي للخبر، بعيدا عن مقص الرقيب في بلاد المنشأ، وعدسات المترجم الأصلي المركزي في لندن أو المتعاقد عن بعد في عواصم شرق أوسطية. بعضها كانت عدساته مقعرة أومحدّبة، طبقا لمدى حساسية الخبر لدى الجمهور في بعض البلدان التي لا تريد أو لا قِبَلَ للندن على تعكير صفو العلاقات مع حكوماتها أو شعوبها.
تعلم كل المؤسسات الصحفية الرصينة، أن حجب أو بث، العجلة أو التريث، في خبر أو معلومة، نقلا عن مصدر أو بدعة سموها «مصادر خاصة» أو «مُخبِر مجهول، محمي أو مصان» كلها غاية في الخطورة. تعلم الصحافة البريطانية على وجه الخصوص، كيف كانت المعلومة المنقوصة أو المغلوطة، كما الإشاعة أو الأخبار المفبركة تخلّف دماء وحطاما. حصل ذلك في سنوات حرب منظمة الجيش الجمهوري الإيرلندي -الإرهابي أو المناضل- وحصل ذلك قبلها بعقود في معركة ووترلو، وكيف لعبت إشاعة من انتصر في الحرب بريطانيا أم فرنسا دورا حاسما في تحديد قيمة الجنيه الاسترليني مقابل الفرنك الفرنسي أمام المضاربين، ونشوب حرب العملات التي ما زالت طاحنة إلى يومنا هذا. حرب ضروس ذاع فيها صيت الملياردير اليساري المتطرف جورج سورس -اليسار بالمعايير الأمريكية-، زعيم «المجتمعات المفتوحة» التي نشر من خلال حفنة مما سميت منظمات المجتمع المدني أو الأهلية أو غير الحكومية، أشكالا من «الثورات الملوّنة» و»الفوضى الخلاقة» الهدامة و»الربيع العربي» اللعين. سورس الذي تسبب بانهيار عملات في النمور الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي، ونال عبر وريث امبراطوريته ابنه أليكس «ميدالية الحرية» من الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن.
لن يصلح حال الصحافة -يسموها ما شاءوا- إعلان، إعلام، اتصال، ويسمون أنفسهم ما أرادوا صحفيين، ناشطين، مؤثرين، لن يصلح الحال إلا بالمساءلة التي تصون الحرية بتعزيز حس المسؤولية. تستقيم الأمور بدفع الثمن. الاعتذار وما هو أقل منه «سحب الخبر العاجل»، ليس كافيا.. صحيح أن التصعيد مع وكالة في حجم رويترز أو موقع شديد السميّة والخسة ك «مييم»، قد لا يكون حميدا ويجلب «وجع راس». قد يفتح «عش دبابير» لكن لا بد من إظهار الوجه الآخر للطيبين. الطيبة لغة تشجع للأسف المتنمرين على الاستمرار في الخطأ.
البدائل كثيرة من ضمنها، تعليق اشتراك معروف أن قيمته قد تكون مع كلفة الإعلانات بملايين الدنانير. من الردود المتعارف عليها حتى في أعرق الديموقراطيات وأشهرها في الحرية الصحفية كبريطانيا وأمريكا، الاستدعاء للتحقيق المهني فالقضائي وحتى الأمني، إن لزم الأمر. هناك بدائل إجرائية سريعة متوفرة بالأدراج، كأن يتم رفع رسوم العمل داخل المملكة، وتقييد حصولها على «منح وليس حق» المشاركة في المناسبات السياسية والميادين الأخرى بما فيها الرياضية والثقافية، أو فرض غرامات تأديبية تصاعدية مع كل إزعاج غير مبرر مهنيا، فما بالك بإساءة من السهل على أي مدعٍ عام اعتبارها تهما ذات تماس بالأمن الاجتماعي، الاقتصادي أو السياسي؟
في الثقافة الأمريكية، يشار إلى عدائية البعض وتصيّدهم واستهدافهم بالأعداء، ويُفسَّر ما يصدر عنهم بالهجوم «آمبُشْ» فلا أقل من الرد الرادع، الصاع صاعين أو «خماسي» افتراضي، لا ثلاثي الأبعاد! لن أترجم تلك الكلمة العامية- الفصحى في آن واحد، كلمة خْماسي، عاجلا ولا حتى آجلا!! ــ الدستور