الأخبار

د. عدلي فندح : الاقتصاد الأردني: بين الصمود والريادة

د. عدلي فندح : الاقتصاد الأردني: بين الصمود والريادة
أخبارنا :  

في عالم يموج بالتحولات العاصفة، لم يعد كافيًا لأي اقتصاد أن يقتصر على الصمود أمام الأزمات، بل بات لزامًا عليه أن يتحلى بمرونة تمكنه من التحليق في فضاءات النمو والازدهار. فالمناعة الاقتصادية وحدها، مهما بلغت صلابتها، لا تكفل للأمم مكانة متقدمة في مصاف الدول الرائدة، بل تظل حاجزًا يحميها من السقوط لا أكثر. والأردن، كغيره من الدول، أثبت قدرته على امتصاص الصدمات، سواء أكانت داخلية أم خارجية، لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: كيف ينتقل هذا الاقتصاد من حالة الدفاع إلى موقع المبادرة؟ كيف يحول التحديات إلى منصات انطلاق، ويجعل من المرونة أداةً للريادة بدلًا من أن تكون مجرد وسيلة للبقاء؟

لقد واجه الاقتصاد الأردني على مر العقود اختبارات عسيرة، بدءًا من الأزمات المالية العالمية، مرورًا بالتوترات الإقليمية، وليس انتهاءً بجائحة كورونا التي هزت أسس الأسواق الدولية. في كل مرة، أظهر الأردن قدرةً لافتة على التكيف، حيث تبنت مؤسساته النقدية سياسات رشيدة ضمنت استقرار الدينار، وعزز البنك المركزي احتياطياته الأجنبية، فيما تمكن القطاع المصرفي من الحفاظ على توازنه وسط العواصف. ورغم ما فرضته بعض القوانين والعقوبات الخارجية، كمثل «قانون قيصر»، من تحديات جسام، فإن الاقتصاد الأردني استطاع الالتفاف على آثارها، عبر استراتيجيات دبلوماسية واقتصادية ذكية.

إلا أن التكيف وحده لا يصنع تقدمًا، بل يترك الاقتصاد في حالة استجابة دائمة، يُحكم فيها على أدائه بمدى قدرته على الصمود وليس بقدرته على النمو. فبينما استمرت دول أخرى في القفز نحو آفاق الابتكار والإنتاجية العالية، ظل الأردن عالقًا في مساحات ضيقة من الاعتماد على التحويلات الخارجية والمساعدات الدولية، في حين أن مقومات التحول إلى اقتصاد أكثر ديناميكية تظل قائمة لكنها غير مستثمرة بالشكل الأمثل.

ليس من العسير إدراك أن ثمة عوامل تعرقل مسيرة الاقتصاد الأردني نحو مرحلة أكثر تقدمًا. فمعدلات النمو، وإن كانت مستقرة نسبيًا، لا تزال غير كافية لإحداث نقلة نوعية، إذ يهيمن على الاقتصاد طابع تقليدي يعتمد على القطاعات الخدمية دون أن يتوسع بشكل ملموس في مجالات التصنيع عالي القيمة او التعقيد أو التكنولوجيا المتقدمة.

أما البطالة، فتظل التحدي الأكبر، خاصة بين الشباب الذين يجدون أنفسهم أمام سوق عمل محدود الفرص، ما يدفع الكثيرين منهم إلى البحث عن مستقبل في دول أخرى، وهو ما يمثل استنزافًا للطاقات والكفاءات الوطنية. وإلى جانب ذلك، فإن الاضطرابات السياسية الإقليمية، من النزاعات في المنطقة إلى التداعيات الاقتصادية للحروب الكبرى مثل الأزمة الروسية الأوكرانية، والازمات والصرعات الاقليمية تضيف طبقة جديدة من التعقيد على المشهد الاقتصادي الأردني، حيث تؤثر بشكل مباشر على كلفة المعيشة، وسلاسل التوريد، وأسعار السلع الأساسية.

وعلى الرغم من الطفرة التكنولوجية التي يشهدها العالم، فإن الاقتصاد الأردني بحاجة لأن يسير بخطوات متسارعة نحو التحول الرقمي، لجعله أكثر تنافسية مع الدول الأخرى التي أدركت مبكرًا أن المستقبل يكمن في الاقتصاد الرقمي، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المالية.

إن التحول من اقتصاد متكيف إلى اقتصاد رائد يستلزم إعادة رسم الأولويات، واعتماد نهج جريء يستند إلى ركائز جديدة للنمو، قوامها الابتكار، والاستثمار الذكي، والانفتاح على الفرص غير التقليدية. ولتحقيق ذلك، لا بد من اتخاذ خطوات ملموسة تضع الاقتصاد الأردني على مسار أكثر طموحًا:

1. بناء اقتصاد معرفي قائم على الابتكار والتكنولوجيا؛فلم تعد الاقتصادات الكبرى تُبنى على الموارد التقليدية وحدها، بل أصبحت تعتمد بشكل أساسي على المعرفة والابتكار. لذا، فإن على الأردن أن يتحول إلى بيئة خصبة لريادة الأعمال والشركات الناشئة، عبر:

تأسيس صناديق استثمار وطنية لدعم الشركات التكنولوجية الناشئة، مع تقديم إعفاءات ضريبية تشجع المستثمرين على ضخ رؤوس الأموال في القطاعات الرقمية المتقدمة.

تعزيز واستكمال البنية التحتية الرقمية، من خلال نشر الإنترنت فائق السرعة، وتطوير منظومات الدفع الإلكتروني، وتحفيز التحول إلى اقتصاد غير نقدي يعتمد على التكنولوجيا المالية.

إنشاء واحات للابتكار، كمناطق اقتصادية خاصة تستقطب الشركات الرائدة في الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وإنترنت الأشياء، مما يضع الأردن في قلب التحول الرقمي الإقليمي.

2. إعادة تشكيل القطاع الصناعي نحو صناعات عالية القيمة؛ فلم يعد النمو الصناعي يقاس فقط بحجم الإنتاج، بل بقيمته المضافة وقدرته على المنافسة في الأسواق العالمية. ولتحقيق نهضة صناعية حقيقية، يمكن للأردن:

التركيز على الصناعات الدوائية المتقدمة، وتوسيع نطاق الإنتاج ليشمل تقنيات التكنولوجيا الحيوية، وصناعة الأدوية المبتكرة، مما يعزز موقعه كمركز إقليمي في هذا المجال.

دعم التكنولوجيا الزراعية والزراعة الذكية، عبر تبني أنظمة ري حديثة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مما يزيد الإنتاجية ويقلل من استهلاك الموارد الطبيعية الشحيحة.

إقامة شراكات مع شركات تصنيع عالمية لإنشاء مصانع متطورة داخل الأردن، توفر فرص عمل وتساهم في نقل التكنولوجيا المتقدمة إلى السوق المحلية.

3. الانفتاح على أسواق جديدة وتوسيع نطاق الشراكات الاقتصادية؛ فبدلًا من الاعتماد المفرط على الأسواق التقليدية، يمكن للأردن أن يبحث عن فرص غير مستغلة في اقتصادات ناشئة مثل:

تعزيز التعاون الاقتصادي مع افريقيا وأميركا اللاتينية ودول الاتحاد السوفييتي سابقا بالاضافة إلى الصين والهند، من خلال اتفاقيات تجارية تسهل تدفق السلع والخدمات، وتفتح أسواقًا جديدة أمام الصادرات الأردنية.

استقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة في القطاعات التكنولوجية، عبر توفير بيئة استثمارية مرنة، وإزالة العوائق البيروقراطية التي قد تعيق تدفق رؤوس الأموال.

4. التحول بلا تردد إلى قوة في مجال الطاقة المتجددة والاستدامة؛ فالطاقة المتجددة ليست مجرد بديل عن الوقود التقليدي، بل هي محرك أساسي للتنمية الاقتصادية المستدامة. ومن هذا المنطلق، يمكن للأردن أن يصبح رائدًا في هذا المجال عبر:

التوسع الانفجاري في الاستثمار في مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، مما يجعلها مصدرًا رئيسيًا للطاقة النظيفة، ويقلل الاعتماد على واردات الطاقة المكلفة.

تطوير تقنيات تخزين الطاقة، لضمان استدامة الإمدادات الكهربائية، وتعزيز استخدام الشبكات الذكية في إدارة الموارد.

نحن على يقين تام أن الاقتصاد الأردني يمتلك كل المقومات التي تؤهله ليكون لاعبًا محوريًا في المنطقة، لكنه يحتاج إلى تجاوز مرحلة التكيف إلى مرحلة الفاعلية الاقتصادية الحقيقية. المستقبل لن ينتظر من يتردد، بل سيمنح فرصه لمن يملك الجرأة على الاستثمار في الابتكار، والقدرة على إعادة تشكيل قواعد اللعبة الاقتصادية. لم يعد كافيًا أن نحافظ على الاستقرار، بل أصبح واجبًا أن نصنع الازدهار، مستندين إلى ثروتنا الحقيقية الطاقات البشرية الهائلة التي يمتلكها وطننا، والتي تشكل المحرك الأساسي لأي نهضة اقتصادية مستدامة.

مواضيع قد تهمك