الأخبار

احمد سلامة يكتب : : فلسطين .. حماس .. والبقجة على الراس

احمد سلامة يكتب : : فلسطين .. حماس .. والبقجة على الراس
أخبارنا :  

كان ذلك المشهد، في مطلع عام ١٩٨٦ م، وفي البصرة العراقية… اقلتنا طائرة في رحلة ليلية على عجل الى بغداد، كنا ثلاثة شباب اردنيين وسوداني، في مهمة تغطية صحفية لوقوع (الفاو في ايدي القوات الايرانية) بصورة اختطاف مفاجئ اذهل الاقليم كله.

الحبيب الغالي عبدالله العتوم من وكالة الانباء الرسمية، ويوسف العلان المصور الصحفي الاشهر من (الرأي) وكاتب هذه الحكاية العربية (الرأي) وطه النعمان سوداني عن جريدة الاتحاد الظبيانية.

الهزيمة لا يبدد رائحتها النتنة الا عزيمة القادة التاريخيين كانت كالسحاب فوق بغداد الهزيمة تترنح وتتراجع، وعزيمة البطل القومي صدام حسين تلح على الثبات وتجمع عناصر الصمود في وجه حملة ايرانية ضارية تبين لاحقا ان من وراءها (فضيحة ايران غيت) بتنسيق اسرائيلي امريكي ايراني!!!

كان القلق يحوم فوق بغداد والثبات يحاول تبديده.. عدة ايام قضيناها معزولين في فندق المنصور لم نع شيئا لما يجري بالجنوب العراقي. لقد اضحت قوات الحرس الثوري الايراني على تخوم البصرة، ووطاءت اقدام الاطفال الذين في طريقهم الى القدس عبر بوابة البصرة منطقة (شلهة الاغوات) التي تتاخم البصرة كثيرا…

اتجهنا ليلا الى البصرة على وقع جنازير دبابات اللواء الثاني عشر العراقي الذي (صد يهود) مع اللواء الاربعين الاردني والمغاوير المغاربة اليهود عن دمشق عام ١٩٧٣م، كان هذا اللواء درة تاج الجيش العراقي وباشر زحفه الضاري من اقصى شمال العراق (الحاج عمران) حتى اخر رمق عراقي في الجنوب البصرة..

على بوابات الفجر في احد ايام شباط وافيناها.. واول ما كان فيها ذلك التمثال لبدر شاكر السياب يرحب بالقادم اليها ويردد بهدوء حد الترتيل "عيناك غابتا نخيل ساعة السحر" او "شرفتان راح ينأى عنهما القمر".. واضواء المدينة تتراقص مستجيبة للقذائف الايرانية التي تتساقط على يميننا ويسارنا..

كانت القيادة العراقية قد اصدرت امرا حاسما ان تظل البصرة مضاءة تحت القصف.. كان الضوء العراقي يبدد وحشة الحرب وتوحش العدو الذي باشر الاقتراب قبل الاقتحام!!

قلت لـ يوسف العلان: خلينا نتمشى شوي لان عبدالله قد خلد الى نومه اول المساء للراحة في فندق الشيراتون!.. اعترض يوسف بطريقته الطفولية المحببة وشتم ولعن، يا بني ادم ما انت شايف المتاريس الرملية تتبخر تحت القصف الايراني!!

داعبته يا يوسف الموت من تحت الرمل ارحم من تطاير شظايا زجاج الشيراتون لان القصف يطال كل شيء!

مشينا في شوارع بغداد عبر المتاريس والمدينة تضيء الليل متحدية غطرسة القنابل.. تلك المدينة التي اسماها العبقري الفذ بأمر امبراطوري لـ سعد بن ابي وقاص، قال عمر بن الخطاب (واتخذ لجندك مكانا تبصر فيه الخطر الاتي من الفرس)، وهكذا اسماها العرب البصرة لتبصر الخطر الاتي

هذه البصرة الحنونة الابية، وهي كالشامة تلاصق اول الخليج العربي او يبتدئ بها.. جاءها محمد بن عبد الوهاب ليبدأ دعوته منها فاخفق واعيد على قارب انجليزي الى اليمن.. كان الفقيه النجفي عبدالاله الاتري قد احرج اجتهاده الغريب في تحريم زيارة المقابر!! بالقرآن الكريم ثم وافاها بعد حين الشريف الملك علي بن الحسين بن علي بعد ان اخلى كرسيه في ملك الحجاز حقنا لدماء المسلمين وغادر جدة ملتحقا باخيه فيصل الملك النبيل الذي حط رحاله فيها قبل نيف وسنين

هي البصرة.. التي احرقها الزنج في ثورة عارمة ارهقت بني العباس وهي البصرة معقل وموطئ الفقه والنحو واللغة والشعر والجمال.. وها نحن نلوب في حواريها المثخنة بمدافع آيات الله !!

كانت البصرة جبهتها مغطاة باكياس الرمل وعيونها الضوء المتدفق من جنباتها بامر رئاسي قادر!!…

دخلنا لنوفوتيه وصاحبتها مهمومة على الهاتف تلاحق اخبار الشهداء، فهمنا ان اثنين من اولادها قد استشهدا وانها تجهل مصير الثالث
الذي هو في الفاو، كانت تدخن بطريقة دراماتيكية ورابطة الجاءش ومتماسكة حد العروبة كل النسوة العربيات قد قدمن فلذات الكبد ببطولة حين يجد الجد والذين يجعلون من الاستشهاد بكائية في غزة لم يطالعوا تاريخ الجزائرية في حي القصبة، ولا المصرية في بحر البقر والاسماعيلية، ولا الاردنية في اربد وكفر اسد، ولا العراقية في البصرة.. العربيات خاصة والعرب عموما الشهادة في قاموسهم (ديانة) وتجنبها (خيانة)

الله سبحانه وتعالى امرنا بذلك…

كانت تلك البصرية الممتدة القوام خمسينية العمر، بصرية العينين فطنت مع بعض دموعها اننا معها سألتها.. نريد ملابس لاطفالنا يا خالة!!

اجابت باحترام ومن غير اعتناء، (نقي يا ولدي اكو المحل قدامك)

لا يوسف ولا انا كنا بمزاج الشراء للاولاد بل محاولة نبيلة لافتعال حوار وسط ضجيج القنابل وعزة الصمود ايضا فالصمود يعز اصحابه…

سألتها عن الحال والاولاد واعادت ما كنا قد انصتنا اليه عن حال الشهداء من ولديها..

سألتها وسط نفاثها لدخان سيجارتها ليش ما تتركي البصرة وتروحي لبغداد ما انت شايفة الخطر!!

وكان الجواب الذي ردت غزة في صمودها عليه بعد مرور قرابة الاربعين عاما.. اجابتني تلك العراقية الشهمة ما رح اغادر البصرة اموت هناني ولا اتركها.. واكملت بحسرة حرى (يا وليدي العرب بواقين رح يحكوا عنا ان تركنا البصرة مثل الذي حكوه عن الفلسطينية تركوا بلادهم ومشيوا!!) ما رح اترك…

عدنا الى الفندق واجتاحتني حالة من البكاء الطفولي لست ادري كم لبثت فيها… كانت صور الهزيمة المتكررة قد قفزت الى روحي واختنقت بها احتضنني يوسف العلان وهدهدني ولم يقل هو الاخر حرفا واحدا

كانت بالفعل الصورة النمطية للفلسطيني الذي يسير امام زوجته محزونا وهي تضع على راسها (بقجة الملابس وبعض الحاجيات) ويمضون للمجهول.. وطفل على الحضن واطفال يتعربشون على يدي الوالدة…

وددت أن أقول حين رأيت ما رأى كل العالم لحظة وقف الجنون الوحشي الاوروبي الامريكي وزنار الهوان العربي على غزة ذلك القطاع الذي تتجاذبه إرادتان القوة المحتلة الغاشمة والفلسطيني الذي علمته الدروس في التاريخ (من هالبراح ما في رواح)

نعم… الشهداء كثيرون والمفقودون والجرحى والاسرى أكثر وأكثر، كل ذلك هو الاطار في لوحة غزة، لكن الصورة داخل الاطار كانت شيئا اخر في رأيي

لقد خسر الفلسطيني كل وطنه تقريبا عام ١٩٤٨م واندثرت حد الابادة ٥١٠ قرى فلسطينية، أي مسحت عن وجه الدنيا، وفقد الفلسطينيون قرابة الربع مليون قتيل وغادر فلسطين مهاجرا حوالي ٦٠٠ الف، كانت مجزرة العصر ومجزرة في التاريخ رهيبة لا احد خلد صورة (البقجة الفلسطينية) باحترام او بتقدير، لكن هذا الجزء الفلسطيني الذي (ربعه لحية، وربعه احتلال، وربعه وعي، وربعه إرادة) قد رسم صورة جديدة للفلسطيني لقد انهى لون الدم في غزة صورة اذلال الرحيل عام ١٩٤٨م.

سأظل اعتقد كيقين مطلق ان اهم عمل بطولي اداه الفلسطيني قبل غزة صورة المرأة الفلسطينية ابنة مخيم صبرا في بيروت حين ارسلها الصوفي المتبتل الشهيد ابو جهاد (خليل الوزير يرحمه الله) في عملية رد وثأر على عملية الفردان التي راح ضحيتها سنة ١٩٧٣م (كمال ناصر، وابو يوسف النجار، وكمال العدوان) والتي نفذت في ليل وايهود باراك تخفى بثوب وبباروكة امرأة وكان ابو جهاد. قرر أن يكون الرد في وضح نهار فلسطين، وان تقوده امرأة فلسطينية حقيقية هي دلال المغربي شهيدة الحب والثورة وسيدة البنادق..

حتى هذه العملية الاسمى كانت ردة فعل فلسطينية مجيدة حين تم تحرير الشاطيء الفلسطيني بين يافا وتل ابيب لبضع ساعات وعشرات القتلى اليهود ورعب دس تحت كل خلية من خلايا دماغ مناحييم بيغن!!

في غزة الامر كله مختلف لقد كانت غزة هي الفعل.. انا لا اتحدث عن بطولة حماس فكل العرب بقادرين انجاز هذه الصورة من البطولة
انا اتحدث عن قطاع صغير في الجغرافيا لكنه اناب عن امة بأسرها حين خطط كان عربيا مجيدا في السابع من اكتوبر وحين نفذ كان يعي حسابات النصر ودفع الثمن وحين صمد وقال من هالبراح ما في رواح

كان قد توضأ بماء من ابريق صالح الشويعر وفرد سجادة صلاة عبد المنعم رياض وابتهل الى الله مترحما على روح صدام حسين الذي كان اول (زخ الصواريخ قراره هو)

ليس مهما للتاريخ كيف مضى السنوار وصحبه والامهات كيف بحبشت في اشلاء اطفالهن للتعرف عليهم، التاريخ سيسجل لغزة انها الغت الصورة النمطية للبقجة الفلسطينية وجعلت من الدم خطوطا يحدد فيها المكان، وسيقول التاريخ انه في اول صراع مع يهود عام ١٩٤٨م
تمكن الجيش العربي الاردني الباسل بارادته الهاشمية الفذة من اسر ما يزيد عن ١٥٢ يهوديا من الحي اليهودي وان مصر العروبة بجيشها الابي قد اسرت (عساف ياغوري قائد لواء من خط بارليف) وان الجيش العراقي له شهداء في كل مكان فلسطيني وان غزة اول من اسر يهودا واوجع وابكى من تحت الكاميرات

اليوم بعد ان توقف الدمار واستمر الحصار، اليوم حين راينا اليهود يبكون ويلطمون حسرة وفرحا بلقيا اسيراتهم اليوم. صرنا مثل بعضنا!!

سيسجل التاريخ لغزة انها قاتلت بمبادرة منها مجيدة رغم اختلال توازن القوى وانها صمدت ولم تساوم وان دمها اضحى اغاني عالمية للفرح والشهامة..

في الاسبوع الاول من معركة تحطيم الصورة النمطية (للبقجة) كان القرار الدولي (اسرائيلي وامريكي وبريطاني وفرنسي) بتهجير غزة قد صار في باب المتاح بل والمرحب به.. كان الضجيج رهيبا حد العمى وسيذكر التاريخ المنصف يوما وانا اقول ذلك ليس ترويجا سياسيا لاحد
بل اذكر ذلك للحقيقة ان الصمود الفلسطيني الذي اذهل الدنيا، ولم يرحل.. وان الجهد الذي بذله الملك الهاشمي العربي الاصيل عبدالله بن الحسين حماه الله قد اسهم وساعد واعان على التراجع عن قبول قرار الترحيل ليصير احتمالا فقط ومن ثم تم استبعاده…

شكرا لغزة التي اجابت على المرأة العراقية في البصرة وشكرا لمن يفهم الذي جرى في غزة انه استمرار لبطولة عربية دفع عرب الجوار جميعا اثمانا باهظة فالهاشميون ضحوا بعروشهم وصدام حسين شنق يوم عيد وعبد الناصر قدم كل مصر الى الفقر والجوع والعوز وهي ام الدنيا فداء لفلسطين ولبنان قدمت روحها منذ الرحيل الاول

نعم تضحية غزة باهظة الثمن لان الغاء صورة البقجة كانت جديرة بكل هذه التضحيات..

مواضيع قد تهمك