د. زهير طاهات : جامعة اليرموك رؤية استشرافيّة
منذ بداية الألفية الثالثة، واجهت إدارات الجامعات الأردنية الرسمية تحدياتٍ كبيرةً منها، مالية وأخرى أكاديمية، أدت إلى تعطيل بعض برامجها، وساهمت في عدم مواكبتها لروح العصر، وأحدثت خللا كبيرا في بنيتها التحتية، وعدم القدرة على صيانة المباني والمَرافق. وعلى المستوى الأكاديمي، توقفت برامح البعثات العلمية، وعقد المؤتمرات، وضعف البحث العلمي، ما أدى ذلك كله إلى الحدّ من تطور الجامعات الأردنية الحكومية، وتقدمها في الجوانب كافة.
ومن التحديات المالية التي لا تزال تعاني منها أغلب الجامعات الأردنية الرسمية هي الديون التي ترزح تحت وطأتها أعاقت بها مسيرة تقدمها وازدهارها، وعطلت الكثير من استراتيجياتها. كما أن التحديات الأكاديمية ساهمت في شلّ حركتها، خاصة فيما يتعلق بالتصنيفات العالمية التي لم تكن ضمن استراتيجيات حساب إداراتها، ولا على سلَّم أولوياتها التي اعتمدت سياسة ترحيل الأزمات، والاكتفاء بإنجازات إدارية، وأنشطة، ومؤتمرات، ورحلات خارجية لزيادة منسوب مالي للمياومات، ما أدى إلى تعثر استراتيجياتها، وتعطّل برامجها وتجميدها. فبعض الجامعات الحكومية لم تكن إداراتها تمتلك رؤى إدارية علمية حديثة، وبسب تعنتها ضمن إطار سياسات بيروقراطية تقليدية، وعدم امتلاك أدوات الوعي الإداري، والأكاديمي الكافية، لم تتمكن من فك شيفرة الإدارة الحديثة، أو تتعامل مع متطلبات العصر، وسوق العمل في مرحلة الحتمية الرقمية التي دخلت في مجالات التعليم، والإدارة، ومناحي الحياة.
وجامعة اليرموك كغيرها من الجامعات الرسمية التي تعاني من هذه الأزمة المالية؛ بسبب الديون التي أثقلت كاهلها، والتي لم تكن يوما ما بسبب سوء إدارة الجامعة كما يزعم بعض مَن قرأ الملف المالي من زاوية أخرى؛ متغافلا عن حقيقة الأمر بقصدٍ، أو من دون قصد، واتهامه إدارة جامعة اليرموك على وجه الخصوص بعدم القدرة على إدارة الملف المالي. لكن الحقيقة تؤكد أن السبب الرئيس يعود لعدم تسديد الوزاراتوالجهات المانحة ما يترتب عليها من رسوم مالية؛ جرّاء المِنح، والبعثات التي تترتب على مبعوثيها الذين يزيد عددهم عن سبعين بالمئة من عدد طلبة الجامعة الكلي ما يؤدي إلى زيادة العجز المالي للجامعة، ويجبرها إلى اللجوء للاقتراض من البنوك حتى تستطيع أن تغطي نفقاتها المالية الخاصة بالبرامج المتعلقة بالموازنة التشغيلية اللازمة، وهذا ما يزيد من فاتورة الديون على الجامعة سنة بعد سنة.
وللأمانة والانصاف أقول: إن تعامل إدارة اليرموك مع هذا الملف المالي الساخن الذي تم ترحيله من إدارات سابقة، استطاعت- بما تحمله من رؤية ثاقبة، وعمل دؤوب – أن تواجه هذا التحدي الكبير، فوضعت استراتيجية علاجية لهذا النزف المالي منذ تسلمها مهامّ عملها، حيث تمكنت من تحويل التحديات التي واجهتها إلى فرص نجاح، وتعاملت بكفاية عالية مع الموارد المالية والإدارية، وعملت على استثمار الإمكانيات المتاحة والمتوافرة لديها؛ كي تدفع بها عجلة تقدمها وتطورها.
وجامعة اليرموك التي كانت تعاني منذ عقود من تحديات مالية وأكاديمية، فقد تمكنت في السنوات الأخيرة من الوصول إلى التميز في التعليم، والبحث العلمي، ومضت قُدُمًا نحو العالمية، واحتلت مكانة متميزة ضمن التصنيفات العالمية، وحصلت على الاعتمادات العالمية، وعملت على استحداث أكثر من ثلاثين برنامجا أكاديميّا وفق متطلبات العصر، والتحول الرقمي، وبرامج أكاديمية، وعملية لخدمة المجتمع، ومساعدته للتغلب على التحديات التي تواجهه. وبعد أن تمكنت من وضع أدوات علاجية للملف المالي، ووقف النزف المالي، أخذت بالتوسع والتشبيك مع المجتمع المحلي، والتشاركية مع القطاع الخاص بإقامة مشاريع استثمارية كبرى داخل الجامعة ما ساعد ذلك في علاج الخلل المتعلق بالملف المالي.
وعلى مستوى الملف الأكاديمي، فقد بدأت الجامعة منذ بداية هذا العام حراكا أكاديميا إبداعيا، أدى إلى إحراز تقدم ملموس في الملف الأكاديمي، والبحث العلمي، والحرص على أن تكون الجامعة ضمن التصنيفات العالمية للجامعات المرموقة، ولتحقيق هذا الهدف العريض قامت بتعديل التعليمات الخاصة بتشجيع البحث العلمي، وزيادة مخصصاته، ودعم الابتكار، والحرص على توفير بيئة تشجع على الاكتشاف والإبداع، ودعم الباحثين لتحقيق إنجازات تعود بالنفع، والفائدة على الجامعة، والمجتمع في آنٍ معا.
والجدير بالذكر أن جامعة اليرموك لم تكن في يوم من الأيام ضمن التصنيفات العالمية، إلا أنها خطت هذا العام خطوات كبيرة لتدخل ضمن التصنيفات العالمية، وتكون من أول ألف جامعة على العالم، واستطاعت في السنوات الأخيرة بحكمة إدارتها أن تحقق نجاحات كبيرة لقدرتها العلمية في وضع رؤية مستقبلية تستشرف التحديات، وتستهدف تطوير الجامعة في المجالات كافة. وتحولت الجامعة بحرص عناصر القيادة فيها من الأساتذة المتميزين علميّا، وعمليّا، وأخلاقيّا إلى خليّة نحل عن طريق عقد لقاءات، وتنفيذ برامج، وورش عمل مع عمادات الجامعة لتحفيز الفريق الأكاديمي، والإداري تحقيقاللأهداف المشتركة، والعمل على بناء بيئة إيجابية تُشجع الابتكار، والتعاون، والبحث العلمي، والحرص على مواصلة عقد اللقاءات المفتوحة مع الطلبة، وأعضاء هيئة التدريس، والإداريين؛ وذلك للتعرف على أفكارهم، ومخاوفهم، وبث الحوافز المالية والمعنوية بينهم في ميدان البحث العلمي، والابتكار، والريادة.
وتركز فلسفة استراتيجية جامعة اليرموك من باب أمانة المسؤولية على التزامها الجاد بالعمل على تحقيق تنمية مجتمعية، والتزامها بالمسؤولية الاجتماعية تجاه المجتمع؛ إيمانا من إدارتها بأنها مسؤولية أخلاقية، واجتماعية، واقتصادية، تتطلب من الجامعة أن تنتبذ لنفسها دورًا فعالًا في خدمة المجتمع، وتحقيق التنمية المستدامة، والعمل على توفير تعليم نوعيّ يلبي احتياجات المجتمع، وحثّ أعضاء الهيئة التدريسية على إجراء بحوث علمية رصينة تخدم المجتمع، وتحقق التنمية، حيث وضعت خدمة المجتمع شرطا أساسا من شروط الترقيات العلمية، وتقديم خدمات المجتمع من مثل: الاستشارات، والتدريب لمركز الملكة رانيا للتطوير والتدريب، ومركز المرأة الأردنية للبحوث والدراسات، والعمل على تعزيز برامج القيَم الأخلاقية، والاجتماعية بين الطلبة والمجتمع عن طريق استحداث مساق أخلاقيات العمل التطوعي تحقيقا لمسار التنمية المستدامة والأهداف التنموية المنشودة. ــ الراي