د. محمد العرب : التسول الإلكتروني: تجارة المشاعر في عصر الرقمنة
التسول، كظاهرة اجتماعية، ليس جديداً على البشرية، منذ أن بدأت المجتمعات البشرية في التجمع، وُجد التسول كوسيلة للنجاة بالنسبة لأولئك الذين عجزوا عن تلبية احتياجاتهم وكان المتسولون في الأزمنة القديمة يطرقون الأبواب، أو يجلسون على جوانب الطرقات حاملين أكفهم طلباً للعون وكان ذلك التسول يعبّر عن احتياج ملموس ومباشر، يستند إلى معاناة حقيقية أو عجز مادي صارخ ،ومع تطور المجتمعات تطورت أدوات التسول، لكنه ظل مرتبطاً دائماً بحالة من الحاجة أو الفقر ، إلا أن التسول في العصر الرقمي أخذ منحى جديداً ، تجاوز حدود الحاجة الحقيقية ليصبح في كثير من الأحيان استغلالاً فاضحاً للعاطفة البشرية ومسرحية رقمية تهدف إلى تحقيق المكاسب بأي ثمن.
في عصر الإنترنت، حيث تُقاس القيمة بعدد المشاهدات والتفاعلات، أصبح التسول الإلكتروني ظاهرة مزعجة تحمل أوجهًا متعددة. لم يعد المتسول بحاجة إلى الشارع أو الزاوية المظلمة، بل صار يمتلك شاشة وكاميرا واتصالاً بالإنترنت، ليبدأ عرضه المسرحي أمام جمهور رقمي واسع. يتنوع التسول الإلكتروني بين رسائل المساعدة المزيفة التي تغمر البريد الإلكتروني ووسائل التواصل، إلى مقاطع الفيديو التي يصنعها أفراد يحاولون جني الأرباح باستغلال قصص مثيرة للشفقة أو مواقف ملفقة تثير التعاطف.
التسول الإلكتروني الحديث لا يرتبط بالضرورة بحالة فقر حقيقي، بل أصبح وسيلة للربح السريع. رسائل تحمل عناوين مؤثرة، مثل طفلي بحاجة إلى عملية عاجلة أو ساعدني لأوفر قوت يومي ، غالباً ما تكون محبوكة بعناية لاستدرار العطف. والمزعج في الأمر أن كثيراً من هذه الحالات تكون غير حقيقية، إذ يتم استغلال العواطف الإنسانية لجمع أموال تُصرف على أمور بعيدة كل البعد عن الحاجة الأساسية.
الأدهى من ذلك هو التحول الذي شهده التسول مع انتشار منصات الفيديو القصير مثل تيك توك. هنا، ظهر جيل جديد من (بثوث التوكتوك) ، وهم أفراد يصنعون مقاطع فيديو غريبة، مضحكة، أو مثيرة للشفقة بهدف جذب التفاعل والتبرعات. يعتمد هؤلاء على تقديم أنفسهم كضحايا، سواء بشكل حقيقي أو تمثيلي، بينما يجمعون أموالاً من الجمهور الذي يجد نفسه متورطاً في هذا الاستعراض. في كثير من الأحيان، لا يكون الهدف مساعدة المتسول، بل متابعة محتواه الساخر أو الترفيهي، مما يجعل التسول الإلكتروني يتحول إلى تجارة مربحة تتلاعب بالمشاعر الإنسانية لتحقيق المكاسب.
هذه الظاهرة تكشف جانباً مظلماً من التطور الرقمي ،فمن جهة تتيح التكنولوجيا فرصاً لمساعدة المحتاجين بطرق لم تكن متاحة من قبل على سبيل المثال لا الحصر ، يمكن لمنصة تمويل جماعي أن تجمع أموالاً لدعم قضية إنسانية حقيقية. ولكن من جهة أخرى، تُستغل هذه الأدوات في الترويج للزيف واستنزاف تعاطف الناس في اتجاهات لا تخدم الحاجة الحقيقية.
التسول الإلكتروني يطرح أسئلة عميقة حول القيم الإنسانية. هل فقدنا قدرتنا على التمييز بين الحاجة الحقيقية والاستغلال؟ هل أصبحنا مجتمعاً يقيس إنسانيته بعدد (اللايكات) و (الشير)؟
وما الذي يعنيه أن تتحول المأساة إلى محتوى رقمي يتناقل الناس مشاهدته دون أن يكترثوا لحقيقتها؟ هذه الأسئلة تعكس التناقض الذي نعيشه في العصر الرقمي، حيث يختلط الحقيقي بالزائف، والإنساني بالمادي.
المشكلة الأكبر في التسول الإلكتروني هي أنه يشوه مفهوم العطاء الإنساني. في الماضي، كان العطاء يُقدم مباشرة للمحتاجين، وكان مشحوناً بقيم التراحم والتكافل الاجتماعي. أما اليوم، فقد أصبح العطاء فعلاً مشروطاً بالتصديق على صحة القصة أو التأثر بالمشهد الرقمي. الأسوأ من ذلك، أن هذا النوع من التسول قد يُضعف رغبة الناس في مساعدة الآخرين، نتيجة الشكوك التي تثيرها القصص المزيفة.
لا يمكننا إنكار أن بعض الحالات الإلكترونية تعبر عن حاجة حقيقية، ولكنها تُغرق في بحر من الزيف يجعل من الصعب على الجمهور التمييز بين الصادق والمخادع. وهنا يظهر دور المسؤولية الرقمية، حيث ينبغي على المنصات أن تتحمل جزءاً من العبء في التحقق من مصداقية المحتوى الذي يروج له.
شخصيا اعتقد أن التسول الإلكتروني يعكس تحدياً أخلاقياً كبيراً أمامنا كمجتمع رقمي. يجب أن نتعلم كيف نوازن بين التعاطف والحذر، وكيف نحمي القيم الإنسانية من الاستغلال المادي. في عالم أصبحت فيه المأساة تجارة والمشاعر عملة، علينا أن نتذكر أن الإنسانية لا تقاس بعدد النقرات، بل بصدق النوايا وعمق العطاء الحقيقي. ــ الدستور