أ. د. كميل موسى فرام : مثالية القول بين الواقع والسلوك
الظروف المستجدة والتغيرات الحياتية التي أصبحت جزءاً واقعياً بكل مناحي الحياة ولا يمكن تجاهله، منحت للبعض إذنا بالولوج لتصنيفات يختارها ويفرضها رأياً بعد منحه مساحة مجانية من حرية القول والكتابة عبر منصات التواصل الاجتماعي، التي تمثل بجزئية منها أسرارا وأهدافا مشروعة بنظر المالكين لهذه المواقع التي تقدم خدماتها وتسهيلاتها بسخاء، ولكنني أجزم أن هذا السخاء ليس مجانيا كما نعتقد بل بثمن كبير لا نعرفه الآن، فحكايا التاريخ توثق بأنه لا يوجد خدمة استعمارية مجانية أبدأً حتى لو صنفت الآن ضمن معاييرها؛ لكن الثمن تختل? صوره وقيمه وتوقيته اعتمادا على النتائج والمواقف التي يقررها أصحاب الأجندات.
مثالية القول بين الواقع والسلوك عنوان جديد يمكن استخلاصه عند تصفح صفحات وسائل التواصل الاجتماعي اليوم والتي تبعث على الدهشة والحيرة حيث الغزارة بكمية الحكماء التي نلاحظ نصائحها تتعدى حدود النسبة والمنطق وبعيدة كل البعد عن الاختصاص، حتى أصبح البعض يمارس هواية الكتابة العشوائية الممولة بصورة متكررة عبر مدار الساعة، وقد نصب من ذاته فيلسوفا ومحللا بقدلاته على استخدام عبارات وكلمات حتى بأخطائها النحوية والاملائية ليمارس حضورا قصريا على مجلس القراء تحت بند الحرية المقزمة التي يراها بعينه الواشحة بالسواد، ليقفز ا?سؤال الذي يفرض ذاته على معشرنا من باب التوثيق: أين الحكمة من هؤلاء ومن هم المخطئون في مجتمعنا إذا كانت نسبة العرابين والمالكين للحقيقة تتجاوز نسبة المخالفين بنسبية لا يمكن تجاهلها، فغدونا في حيرة تفرض علينا مراجعة ذاتية للسلوك والتفكير، بعد التقدم الوهمي الذي فرضه أصحاب حرية الرأي لاستنزاف آخر معاقل التفكير الصحيح؛ النصائح التي تكتب يوميا كفيلة لصنع مجتمع مثالي لا يخطىء، يفتقر للخطائين، والالتحاف بها بصورة تراكمية تجعلها دستورا يمكنه توفير مظلة السعادة والانصاف.
أتمنى على أصحاب الفكر والنصائح أن يبدأ التطبيق الفوري لهذه المثاليات الرائعة المحتوى على مستوى الفرد ثم الجماعة تمهيدا لتعميمها على المجتمع بدرجاته؛ انها أمنية تستحق المكانة، لكن المؤسف أنها لا تتعدى حدود الموعظة الضيقة ضمن سرير حديدي، يصعب العبث بحدوده، فلا القارىء مهتماً ولا الواعظ متابعاً، لتبقى كلمات النصائح تتراكم في خزانة التاريخ وبعيدة عن مؤهلات الحقيقة والاحترام، بسبب اختلاط غير مفسر وغير موفق للذين يقودون القارب بشراعهم وهم بمعلومات صفرية أو سلبية عن الملاحة في عباب بحور الحياة التي ترفض التقاعس و?لكسل، حتى لو قفز بعض هؤلاء بظروفهم لكراسي القرار والمسؤولية، ففي ذلك ليس عبرة ولا يمكن اعتباره قدوة، بل نجاح مؤقت ستعريه الظروف، لأن النجاح الحقيقي للفرد يعتمد على الجهد والنشاط والأداء، ولا يمكن تحقيقه من خلال توفير وسائل التغطية أو الاستناد على محزون عشائري أو مالي أو الحماية بشتى أشكالها ومصادرها، فهذا غبن وجهل يقود صاحبه للهلاك.
التشكيك بمستقبل الدولة الأردنية هو خيانة وجنون، فظروف الانهيارات التي طالت البعض من حولنا هي نتيجة منطقية لسلوك الطبقة الحاكمة التي أهملت عن قصد أو جهل ظروف الشعب، فانتقلت للحياة ببلكونة عالية، ترى في الشارع الصورة مصغرة، ووجود سور محصن من لفيف المنافقين، أوحى لهؤلاء بأن المسيرة سهلة ومضمونة، ولكن الوضع الأردني مختلف تماما، فهناك توافق بين القيادة والشعب؛ قيادة حريصة على استقرار المواطن وتوفير البنية المناسبة لحياة كريمة ضمن امكانات وضغوط تتعدى درجة التحمل، يحميها جيش قوي مخلص ومدرب ليكون السد المنيع أمام ?لأطماع؛ الالتفات للاشاعات وتحرك بعض العرابين لاقتماص دور البطولة بثوب الحرص هو انتحار ولن يثير الفضول للتحليل، فحذاري من الاستماع لمثل هذه التحليلات، فهي رسائل تشويش على الاستقرار، لن نسمح به أبداً ولا بد من التحرك للجمه؛ التشكيل بالاستقرار والتشكيك بالمواقف الوطنية يمثل جريمة على المستوى القومي، فلا بد من المراجعة ورسم حدود المعرفة.
مثالية القول بين الواقع والسلوك حزينة للفئة التي تتوالد من رحم الفراغ والوقت، وترتمي بأحضان الحرية الزائفة التي فصلت بمقاسات تناسبها، فقادتها قوارب السخرية لموانئ الحكمة والنصيحة اعتقادا منها بالقدرة لممارسة قيادية تشغل فراغها، والأمثلة على ذلك تتعدى حدود بطون الكتب لجزئية نعيشها، فمثلا كلنا يعرف ويدرك أن ممارسة العبث والتحدث واستخدام الهاتف الخلوي أثناء القيادة سبب رئيسي لزيادة جرعة الحوادث المرورية القاتلة ومخالفة لأسس القيادة المثالية الآمنة، لنجد الواقع مع كل أسف مغايرا، بل شكل من أشكال التحدي بقالب ال?رية، فصاحب المنشور ينتقد عبر صفحته، ويمارس الخطأ بواقعه؛ تناقض غريب الأطوار بين الواقع والسلوك، يعكس درجة من الانفصام بين الباطن والظاهر، ويحتاج لمراجعة وتقديم النصيحة المدفوعة الثمن لتصبح نافذة، وقد كتبت هذا المقال كرسالة غير مباشرة عن المعنى المقصود اقتناعا بمبدأ الحذق يفهم ونحن حاذقون.
لست ضد الاجتهاد والتطوير خصوصا لأصحاب المهارات المتواضعة أو المتنفذين، لكن هذا الأمر يجب أن يكون ضمن ضوابط غير مؤذية ولا تسبب غباشا بشريا، يبدأ منذ لحظة التفكير بالتغيير، ويدلف للواقع بجرعات، بل نحن بأمس الحاجة لنهضة سلوكية تعيدنا لمربع الواقع والسلوك، وبعيدا عن التجريح والاجتهاد، فنخصص الجهود بمجال التخصص لأن المطالبة بالاصلاح تبدأ بخطوة اصلاح الحال؛ وطننا بخير ونحن شعب مسالم والأردن القوي المستقر هو واقع وليس شعاراً، فالسلام الذي ننعم به هو أمنية الشعوب.. وللحديث بقية. ــ الراي