أهل غزة يفخرون بمواقف الأردن ودعمه
غزة - أحمد زقوت
في لحظات فارقة بين الحياة والموت، وبين الصحة والمرض، صمم أطباء أردنيون على زيارة قطاع غزة في أوج عدوان الاحتلال المستمر منذ 14 شهراً ليقدموا مساعدتهم للأهالي هنا بقدر ما يستطيعون وبما يتوفر من إمكانيات قليلة، محاولين إنقاذ أرواح أنهكتها الإصابات والجروح التي لم تلتئم بفعل الحرب، ولم يكن قرارهم مجرد زيارة حيز جغرافي معين، بل كانوا يحملون في قلوبهم الشعور الإنساني الجميل الذي يضمد جراحهم ليكون بلسماً يلامس قلوبهم.
«الدستور» حاورت ثلاثة أطباء أردنيين، هم اختصاصي النسائية والتوليد د. محمد الدروبي، واختصاصي جراحه الكلى والمسالك البولية د. محمد الحسن، واختصاصي الكلى والمسالك البولية والعقم والمناظير د. محمد الزعبي، وقد تمكنوا من زيارة غزة أثناء الحرب عبر المنظمة الأمريكية «رحمة حول العالم» لإسناد المنظومة الصحية المنهارة، وسلطوا الضوء خلال الحوار على تفاصيل رحلتهم الشاقة وكشفوا عن قصص خفية، وبينوا الأثر الذي تركته الحرب في قلوبهم وأنفسهم.
روى الدروبي بداية الفكرة لمساعدة أهالي غزة، قائلاً: «مع بدء عدوان الاحتلال كانت مشاعري مليئة بالألم والحزن جراء المجازر الكبيرة، وكان العجز يلازمني حيث كنت أحاول مساعدتهم بقدر ما أستطيع وبالوسائل الممكنة»، مضيفاً أنّ «بعض الزملاء وصلوا القطاع عبر وفود طبية دولية، ما أتاح الفرصة لزيارتهم وتقديم العون الطبي للغزيين».
وأشار إلى أنّ قرار الموافقة من منظمة رحمة الدولية جاء في شهر أيار الماضي حيث كان تخصصه من ضمن التخصصات الأكثر احتياجاً بغزة، موضحاً: «تم إبلاغي أنّ الزيارة ستكون عن طريق معبر رفح، لكن قبل موعدها بخمسة أيام اجتاح الاحتلال المدينة وسيطر على المعبر، ما أعاق الرحلة التي ألغيت لاحقاً، وفي شهر حزيران تم إبلاغي مجدداً بإمكانية الذهاب إلى غزة عبر جسر الملك حسين، وهو ما حدث بالفعل».
وعن بدء رحلته المحفوفة بالمخاطر إلى القطاع، بين الدروبي لـ»الدستور» أنّ «الوفد المكون من أطباء متعددي التخصصات انطلق من عمان وصولاً إلى الجسر من الجانب الذي يديره الاحتلال، حيث بدأت المعاناة، إذ مررنا بإجراءات قاسية مثل التفتيش والانتظار لساعات طويلة قبل الوصول لمعبر كرم أبو سالم جنوب غزة، وبعد ذلك وصلنا مستشفى ناصر في مدينة خان يونس، وأثناء مرورنا في المكان رأينا حجم الدمار الهائل الذي أصاب المنطقة كأنه زلزال ابتلع كل شيء»، لافتاً إلى أنّ «جيش الاحتلال منع الوفد من النزول من الحافلة لأداء الصلاة في المسجد الأقصى بالقدس».
وتابع الدكتور الدروبي: «عند وصولنا إلى المستشفى استقبلنا الأطباء والمواطنون بحفاوة كبيرة وبترحاب لا مثيل له»، مبيناً أنّه «في أول ليلة مبيت قصف الاحتلال منزلاً بجانب المستشفى الذي كنا فيه حيث اهتزت جدرانه ورافق ذلك صوت مرعب جراء القصف العنيف، حينها شعرنا بحجم الخوف والألم الذي يرافق الغزيين في مثل هذا القصف».
واستكمل الدروبي تفاصيل اليوم الثاني من زيارته، حيث انطلق إلى شمال غزة نحو مستشفيي كمال عدوان والإندونيسي، وقال: «في طريقنا لم نشاهد سوى المباني المدمرة، وخيام النازحين المهترئة والمساجد المهدمة والشوارع المجرفة، ثم مررنا بحاجز نتساريم الذي يفصل جنوب القطاع عن شماله، وانتظرنا أمامه 3 ساعات تخللها إطلاق الرصاص من جنود الاحتلال بشكل عشوائي في المنطقة المحيطة التي كانت شكلاً من الترهيب المقصود، ثم مررنا بنقطة التفتيش، وبعدها وصلنا إلى شمال القطاع،و حينها رأينا مشاهد لا توصف ودمارا على مد البصر».
وتابع الدروبي: «وصلنا إلى مستشفى كمال عدوان وكان في استقبالنا مديرها حسام أبو صفية، ومروان السلطان مدير المستشفى الإندونيسي وكوادر طبية ومواطنون، وقد ذهبنا لرفع معنوياتهم، لكنهم هم الذين رفعوا معنوياتنا حينها شعرنا بالعز والفخر بوجودنا معهم»، لافتاً إلى أنّ مقر إقامته كانت في كمال عدوان لكنه زار الإندونيسي حيث تم استقبال كامل الوفد الذي مكث هناك مدة قرابة أسبوعين، ثم عاد إلى الأردن.
وحول وضع المنظومة الصحية في القطاع، أكد الاختصاصي أنّ الاحتلال يتعمد استهداف المستشفيات والكوادر الطبية وطواقم الإسعاف وخدمات الطوارئ من خلال إخراجها عن الخدمة عبر قصفها وحرقها كما حدث في مستشفى المعمداني الطبي ومجمع الشفاء الطبي الذي يعتبر أكبر مستشفى في القطاع، فضلاً عن اعتقال الكوادر الطبية الذين حتى اللحظة لم يعرف مصير البعض منهم، إلى جانب تعذبيهم والتنكيل بهم في السجون كما حصل مع الدكتور عدنان البرش رئيس قسم العظام في مستشفى الشفاء والدكتور إياد الرنتيسي استشاري ورئيس قسم النسائية والتوليد في كمال عدوان اللذين استشهدا في الأسر، الأمر الذي يبين أنّ الاحتلال يستهدف الإنسان بشكل مباشر.
وأوضح الدروبي أنّ المنظومة الصحية تعاني من نقص الأطباء في كافة التخصصات وخاصة الجراحية المتعلقة بإصابات الحرب مثل الجراحة والجراحة العامة والعظام والأوعية الدموية، لافتاً إلى أنّ «المريض في الوقت الطبيعي يعاني من مرض ما، على سبيل المثال التهاب في الزائدة الدودية ويتعالج سريعاً، لكن الأمر في غزة مختلف تماماً، فقد يتوفى فوراً بسبب نقص الإمكانات، وكذلك حالات الولادة الطبيعية أو القيصرية أو الإجهاض، فهي تعتبر معاناة إضافية للنساء في ظل عدم توفر الدم ومنتجاته وبنوك الدم، بالإضافة إلى أنّه لا يمكن إجراء عمليات لحالات غير طارئة وتؤجل لوقت لاحق.
وبين الطبيب أنّ الوفد كان يستقبل عددا كبيرا من الإصابات والشهداء دفعة واحدة، مشيراً إلى أنّ الطواقم الطبية التي تعمل في المستشفيات أيضاً تعاني من النزوح أكثر من مرة من مناطق سكنها، وهم بلا مأوى ويحتاجون لتأمين الماء والغذاء لعوائلهم، وبعضهم مشتت ومنفصل عن أهلهم منذ أكثر من عام حيث يقطن مثلاً هو في الشمال وعائلته في الجنوب، وبعضهم فقد عدداً من أفراد أسرته، ومعاناتهم مثل جميع أهالي القطاع في ظل هذا العدوان السافر والاستهداف الممنهج لهم، مشدداً على أنّ المستشفيات تعتبر ركناً أساسياً في صمود الأهالي، فمثلاً مستشفى كمال عدوان يعد الملاذ الأخير للمرضى والمواطنين في ظل استمرار العملية العسكرية هناك منذ أكثر من 60 يوما، حيث لا توجد كهرباء ولا مياه صالحة للشرب ولا مأوى وسط غياب تام لمقومات الحياة التي عمد الاحتلال إلى تدميرها.
وذكر الدروبي بعض القصص التي عايشها أثناء عمله في القطاع، قائلاً: «إحدى النساء الحوامل أتت للمستشفى ومعها طفلان، رأيتها تبكي بحرقة وألم، وسألتها عن السبب فأخبرتني أنها أنجبت 5 أطفال استشهد ثلاثة منهم أثناء لعبهم أمام مركز الإيواء الذي تقطن فيه بقذيفة إسرائيلية، وكذلك مريضة أخرى أتت لإزالة وسيلة منع الحمل وبعد سؤالها عن السبب الطبي لذلك، أخبرتني أن زوجها استشهد في مجزرة الطحين عند دوار الكويت أثناء محاولته توفير كيس دقيق لهم في وقت المجاعة، تاركاً لها 5 أطفال أصغرهم 7 أشهر فقط»، مشيراً إلى أنّ النساء والأطفال هم الأكثر استهدافاً من الاحتلال في عدوانه.
ولفت الدروبي إلى أنّ أهلنا في قطاع غزة خصوصاً بشماله يشعرون أنّ العالم خذلهم، ويتساءلون كيف تستمر هذه الحرب لأكثر من عام وسط صمت مطبق من الذين يدعون الديمقراطية والحرية، إذ يستخدم الاحتلال مختلف أنواع الأسلحة الفتاكة التي تستهدف الجميع بلا استثناء، مؤكداً أن «ما يعرض على شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي عن غزة لا يمثل سوى حجم ضئيل من المعاناة الحقيقية التي يعيشونها».
وبين الأختصاصي أنّ الشعب الغزي عندما علم أننا أردنيون فرح جداً حيث يفخرون بالأردن ويحملون مشاعر خاصة للمملكة بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني الذي له دور كبير في دعمهم وإسنادهم، خصوصاً في المجال الصحي من خلال المستشفيين الميدانيين الأردنيين، إلى جانب مستشفى خاص للنساء والتوليد تابع للخدمات الطبية الملكية وسيتم افتتاحه قريباً، مؤكداً أنّ الأردن وفلسطين شعب واحد.
واتفق اختصاصي الكلى والمسالك البولية والعقم والمناظير الدكتور محمد الزعبي، الذي رفض الاحتلال قدومه لغزة لـ4 مرات دون أسباب واضحة، مع زميله الدروبي، بأنّ المنظومة الصحية هي آخر خط دفاع للأهالي، مشيرا إلى أن هناك ضغطا كبيرا وشديدا عليها جراء العدوان، إذ تعاني من نقص المتخصصين، فطلاب الطب في عامهم الدراسي السادس هم من يقومون بدور الاختصاص هناك، فضلاً عن شح الأسرة حيث تعالج الإصابات على الأرض، وكذلك المستلزمات الطبية والأدوية ومواد التخدير والمضادات الحيوية.
وقال: على سبيل المثال، البروستات مرض شائع هناك ولا يوجد دواء له، وكنا نستخدم المستهلكات أكثر من 20 مرة، ومن المفترض استخدامها مرة واحدة فقط، في محاولة منا لإنقاذ الأرواح ومعالجة المصابين.
وروى الطبيب الزعبي لـ «الدستور» تجربته بين أهل الصمود في غزة، التي أعطى فيها لمحات عن حجم المعاناة وعمق المأساة التي يعيشها الأهالي حتى هذه اللحظة، موضحاً أنّ الفئة الأكثر معاناة في الحرب هي الأطفال والنساء تحديداً لأنّهم أعلى نسبة في الإصابات والشهداء من نيران الاحتلال خصوصاً مسيرة «كواد كابتر» التي تطلق نيرانها على كل شيء أمامها، حيث كان يأتي إلى المستشفى أطفال مصابون بشكل بليغ بسبب كثرة الشظايا المنتشرة في الجسم، وأكثر من 90% من الاستهدافات بعدة أعضاء، ونادراً ما كان يأتي للمستشفى إصابة في عضو واحد فقط.
وأوضح الأختصاصي أنّ الوضع الغذائي للغزيين مأساوي جداً، فمثلاً اللحوم والدواجن غير متوفرة أساساً، والخضار والفواكه نادرة وأسعارها مرتفعة جداً، ويتعمد الاحتلال تجويع الأهالي هناك بشكل ممنهج، حيث يمنع إدخال بروتينات إليهم، فضلاً عن أنّ سوء التغذية واضح على أجسادهم، فالمتوفر هناك وبكميات شحيحة لا تكفي هو المعلبات والأرز والدقيق، وقد أجريت قرابة 35 عملية جراحية خلال رحلتي، ولا أتذكر أنّ قوة دم المصاب تجاوزت 12، فمعظم الأهالي يعانون من فقر الدم.
وبخصوص الدعم الأردني، بين الزعبي أنّ نقابة الأطباء هناك تلعب دوراً كبيراً في مساعدة أهالي غزة، حيث ترسل بشكل متواصل وفوداً طبية أردنية من أجل تخفيف الضغط على الكوادر الطبية ووزارة الصحة، مشدداً على أنّ شعب غزة يشكر من يقوم بالمساعدة ويقدرهم خصوصاً وفود الأردن الذي يحبه الغزيون من قلوبهم.
واستهجن الطبيب الزعبي موقف العالم الذي يدعي الإنسانية والديمقراطية، مطالباً بإرسال وفود طبية لزيارة القطاع ومعاينة الإصابات والوضع الإنساني والغذائي الكارثي هناك، ليعرفوا حجم الدمار الكبير الذي لا يمكن وصفه في القطاع، وكذلك حجم الظلم الذي تعرض له الفلسطينيون جراء حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي المستمر، متسائلاً: ماذا فعل الأطفال للاحتلال كي يقتلهم ويستهدفهم بأسلحته؟
أما اختصاصي جراحه الكلى والمسالك البولية د. محمد صبحي الحسن، الذي زار القطاع في شهر حزيران الماضي، أكد أنّ الرحلة إلى القطاع كانت شاقة جداً بسبب إجراءات الاحتلال المعقدة.
وقال الحسن، لـ «الدستور»: «عند وصولي إلى شمال القطاع، اكتشفت أنّني الأختصاصي الوحيد في جراحة الكلى والمسالك هناك، فضلاً عن أنّ أكثر من 70% من الأدوية غير متوفر، والمستهلكات الطبية رصيدها صفر في المستودعات، أما مستهلكات غسيل الكلى فهي شحيحة جداً، بالإضافة إلى أنّ معظم الأجهزة الطبية مدمرة وتالفة بفعل الاحتلال.
وفي حديثه عن الوضع الإنساني الذي يعيشه الأهالي، بين الطبيب أنّهم يعانون من سوء تغذية أثرت على صحتهم بشكل بالغ، حيث بدا واضحاً عليهم شحوب الوجه ونحافة البدن بسبب غياب المواد الغذائية الصحية، الأمر الذي أثر بشكل كبير على التئام الجروح وشفاء الكسور، مؤكداً أنّ مئات الحالات من القطع الكامل في مجرى البول (الإحليل) بحاجة لعمليات متقدمة لا يمكن إجراؤها في القطاع، لكن الوفد أجرى عدة عمليات في حالات الأورام التي لم يكن بالإمكان إجراؤها قبل قدومه.
وحول مشاعر الغزيين الإنسانية تجاه الأردن، أشار الحسن إلى أنّه تم استقبالهم بحفاوة كبيرة وبشكل لا يمكن نسيانه، حيث تمت معاملتنا بكرم وجود لا يمكن تقديمه في أوضاع كهذه، إذ كانوا سعيدين جداً بوجودنا رغم المأساة التي يمرون بها عندما علموا أننا من المملكة الأردنية، والجميع هناك يحبون المملكة وشعبها بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني.
وأوضح الحسن أنّ الأردن على المستوى الشعبي والحكومي لم يتوقف منذ بدء العدوان عن مد يد العون إلى الأهل بالقطاع، حيث استمر في إرسال وفود طبية وكوادر صحية حتى يومنا هذا، فضلاً عن إرسال المواد الغذائية والإغاثية والصحية من خلال الهيئة الهاشمية والمؤسسات الخيرية، إلى جانب المستشفيات الميدانية التي لها دور كبير في تقديم الرعاية الصحية للأهالي هناك، مؤكداً أنّ المملكة قيادة وحكومة وشعباً تقف مع الفلسطينيين ولن تتخلى عنهم. ــ الدستور