د. ماجد الخواجا : إلى بغداد عندما يعتصر الحنين
غداً بحول الله سأكون ضمن الباحثين المشاركين في فعاليات المؤتمر العلمي الدولي الخامس الذي تعقده كلية الإعلام في جامعة بغداد الزاهرة تحت عنوان ( وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال ودورهما في تعزيز الحوار بين الحضارات) والذي سيمتد على مدار يومين من الجلسات، حيث تناولت بالبحث موضوع دور الإعلام الرقمي في معالجة خطاب الكراهية ضمن الحالة العربية أنموذجاً.
ليست الزيارة الأولى لي إلى بغداد العرب والحضارة والسلام، بل زرتها فيما كانت تئن تحت وطأة الإرهاب الداعشي عام 2014 في مشاركة بمؤتمر بعنوان العمليات الانتحارية في العراق، حينها كانت المتاريس والحواجز وما تدعى بالسيطرات الأمنية العسكرية المدججة بصنوف الأسلحة والمتواجدة عند كل مفترق طرق أو انعطافة، حينها كانت المنطقة الخضراء أو المربع الأمني حاضراً بقوة في المشهد البغدادي حيث الجدران العالية المتينة التي يختفي خلفها كل من يشعر أنه مستهدف من جهةٍ ما مجهولة أو معلومة. حينها كان السير في الشوارع مخاطرة غير محسوبة النتائج، حينها كان المواطنون ممن يتيسر لهم شراء الأجهزة الكاشفة عن وجود حشوات متفجرة في أسفل السيارات، فلا يركبونها قبل إجراء الفحص لها. حينها كان الخبر المعتاد حدوث انفجارات في أحد الأحياء أو الشوارع الرئيسة وسقوط ضحايا بشكلٍ يومي. حينها كانت الطائفية السياسية في أوجها، وكانت الكراهية منتشرة والتوجّس من الآخر هو السائد. حينها أذكر في ذاك العام أنني حظيت بزيارة العراق جنوباً حيث النجف وكربلاء عبر مؤتمر عن التعددية الدينية لجامعة الكوفة، وزيارة لكردستان العراق حيث المشاركة في مؤتمر عن المكونات العراقية والطائفية السياسية في جامعة جيهان العالمية في أربيل. لقد كان عام 2014 عاماً مشهوداً عندما برزت داعش لتحتل ثلث الأراضي العراقية والسورية المنهكة أصلاً بالحراكات المعارضة وعدم توفر الأمن في كثير من مناطقها.
لا أريد الخوض كثيراً في التفاصيل، لكن أقول أن بغداد قد تمكنت من إزاحة الإرهاب والرعب اليومي وانعدام الأمن الاجتماعي، لتعود مشرقة مبهجة باحثةً عن الحياة والفرح والسلام. ربما ما زالت بعض السيطرات في المفاصل الرئيسة من بغداد، لكنك الآن تستطيع التجوال بحرية وراحة واطمئنان في مختلف مناطق بغداد، وتستمتع بقضاء أوقات جميلة بجوار نهر دجلة الذي يعاني من قلة تدفق المياه في أوردته نتيجة كثرة السدود المانعة لجريانه.
في استطلاع لمؤشر بعنوان « أكثر الشعوب مضيافة ومساعدة للغرباء، جاء العراقيون في المرتبة الثانية بعد الليبيين من حيث مساعدة الغريب وكرم الضيافة. وهذا ليس غريباً عن معظم شعوب المنطقة العربية، فهو سمة تكرست عبر التاريخ وارتبط الكرم بتعريف الشهامة، فلا يمكن التفريق بين النخوة وكرم الضيافة وبين العادات المتعارف عليها.
بغداد من أكثر المدن ارتفاعاً في درجات الحرارة صيفاً، لكنها من أجمل المدن في أوقات الخريف والشتاء، بالرغم من أن أهل بغداد يفرحون للمطر، لكنهم يخشونه بسبب عدم توفر البنية التحتية لانسياب المياه مما يجعلها تتجمع بشكل يعطّل الحياة في الأحياء والشوارع الرئيسة والفرعية.
من يزور بغداد عليه أن يمر في الكرادة والكاظمية والأعظمية والجادرية والمنصور، أن يطل على بغداد عبر جسورها السبع على دجلة بين الكرخ والرصافة، وأن يزور مقهى الشابندر ويحتسي القهوة عند بن علوان، ويتذوق عصير العم «زبالة»، وأن يتناول الكيمر بالعسل العراقي والسمك المسكوف والدليمية، ولا ينسى احتساء كوب الشاي العراقي الشهير المعروف بشاي الربع الذي يعني أن ثمن الكوب 250 دينارا عراقيا، وأن يمر بجوار تمثال المتنبي ليقرأ التاريخ الممعن في حفر عراقة بغداد، ولا ينسى المرور بجوار « كهرمانة»، أن يمر على القصور العباسية ومرقد أبي حنيفة النعمان، أن يعبر جسر الشهداء ويقرأ الفاتحة على أرواح من مضوا ومن ينتظرون، أن يطل على المقابر الهاشمية للملوك الهاشميين في العراق.
في عام 2014 كان ممنوعاً علينا السير في الشوارع أو التنقّل دون وجود مرافقة مسلحة بالكامل بسبب الأوضاع الأمنية، كانت إجراءات المطار تأخذ أربعة حواجز أمنية قبل ولوج مدخل المطار، منها حاجزين للكلاب البوليسية التي تكتشف الأسلحة والمتفجرات، وكان لا بد أن تذهب للمطار قبل موعد الطيران بأربع ساعات على الأقل.
في عام 2024، تستقبلك بغداد ومعظم المدن العراقية بالترحاب والسير بمفردك مستقبلاً كل الحب والفرح المنثور على جنباتها. بهذا الإقبال سألتقي بغداد.
كنت أريد الكتابة عن خطاب الكراهية، لكن بحضور بغداد لا ينبغي إلا أن تذكر لوحدها وأن لا يحضر بجانبها إلا من يعشقها ويسبر أغوارها ويدرك أعماقها وتفاصيلها. سلاماً عمان البهية وأهلا بغداد الندية. ــ الدستور