د. احمد بطاح : الولايات المتحدة: هل هي دولة مؤسسات فعلاً؟!
مع قرب تسلم «ترامب» لسلطاته في 20/01/2025، وفي ضوء توجهاته السياسية التي بثها في سياق حملاته الانتخابية اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أنه بصدد تبني سياسات مختلفة عن تلك التي اعتمدها سلفه «بايدن» وبالذات فيما يتعلق بالحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الدائرة في الشرق الأوسط، والدور الأميركي في حلف «الناتو»، والتعامل مع إيران والصين وغيرهما الأمر الذي دعا كثيرين من المراقبين والمحللين بل والناس العاديين إلى طرح السؤال الآتي: أليست الولايات المتحدة دولة «مؤسسات"؟ أليس غريباً أنّ كل رئيس أميركي يصل إلى سدة الرئاسة يستطيع أن يُغيّر في السياسات والتوجهات؟ أليس هناك «دولة عميقة» هي التي «تقرر» التوجهات السياسية الرئيسية في ضوء المصالح الأميركية ويبقى للرؤساء وكبار المسؤولين أن ينفذوا هذه التوجهات الرئيسية؟
إنّ الإجابة على التساؤلات المطروحة آنفاً هي نعم حيث أنّ في الولايات المتحدة مؤسسات راسخة مثل الرئاسة (الرئيس الذي يشغل البيت الأبيض مع إدارته)، والكونغرس (بمجلسيه: النواب والشيوخ) ومجلس القضاء الأعلى «Supreme Court» (تسعة قضاة يتم اختيارهم بموافقة الرئيس ومصادقة الكونغرس وتستمر خدمتهم مدى الحياة ولا تنتهي إلّا بالموت أو بالاستقالة) ناهيك عن المؤسسات الأخرى غير هذه المؤسسات السالفة الذكر: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية مثل مؤسسة الجيش (U.S Army)، والمخابرات المركزية الأميركية (CIA)، ووكالة الأمن الداخلي، (F.B.I) وغيرها.
وغني عن القول إنّ هذه المؤسسات تمارس صلاحياتها بموجب الدستور الأميركي الذي يعد أقدم دستور مكتوب في العالم حيث وُضع بعد الاستقلال (1776) بسنوات معدودة–ولكن السياسات التي تتبناها هذه المؤسسات تختلف من فترة لأخرى باختلاف من يشغلون هذه المواقع، فمؤسسة الرئاسة تختلف سياساتها باختلاف الرؤساء (جمهوريون، وديمقراطيون...) ومؤسسة الكونغرس تختلف سياساتها باختلاف الأغلبية في المجلسين «النواب والشيوخ» (جمهورية أو ديمقراطية)، ومجلس القضاء الأعلى تختلف سياساته (أو توجهاته بعبارة أصح) باختلاف القضاة الذين يؤلفونه (محافظون يعكسون توجهات الحزب الجمهوري، أو ليبراليون يعكسون توجهات الحزب الديمقراطي).
إنّ من الجدير بالذكر أن النظام السياسي الأميركي يقوم على التوازن بين السلطات (Cheques and balances) فالرئيس الأميركي يعتبر أقوى رئيس تنفيذي في العالم بما له من سلطات واسعة ولكنه لا يستطيع تعيين وزراء إلّا بموافقة الكونغرس، والكونغرس يستطيع أن يوصي بمخصصات معينة (حيث هو المسؤول عن المال) ولكن توصياته تحتاج إلى مصادقة من الرئيس، والرئيس يستطيع أن يصدر أمراً تنفيذياً ولكن قاضياً «فيدرالياً» يستطيع أن يلغي أمر الرئيس وهكذا.
إنّ هذا الموضوع يُثار الآن مع قرب تولي ترامب الرئاسة في 20/01/2025 مع أغلبية لحزبه الجمهوري في الكونغرس فهل بإمكان ترامب أن يكون ديكتاتوراً ويتجاوز عمل المؤسسات الأميركية الراسخة كالكونغرس، ومجلس القضاء الأعلى (أو المحكمة العليا الفيدرالية)؟
إنّ من غير الوارد أن يستطيع ترامب تجاوز المؤسسات ولكنه بالقطع يستطيع مع أغلبية حزبه في الكونغرس أن يمرر بعضاً من التشريعات والقوانين، كما أن بإمكانه أن يتبنى بعض السياسات المناقضة لسياسات سلفه بايدن لأن تبني هذه السياسات لا يمس بجوهر عمل المؤسسات أو يعطلها، فعلى سبيل المثال يمكن لترامب أن يوقف أو يقلل المخصصات المالية لأوكرانيا لأنه يريد أن ينهي حربها مع روسيا ولكن هذا لا يلغي دور الكونغرس، ولو افترضنا أن أغلبية الكونغرس الآن هي للحزب الديمقراطي وليس الحزب الجمهوري لكان بإمكان الكونغرس أن يرفض تقليص أو حجب المساعدة عن أوكرانيا. ومثال آخر يتعلق «بحل الدولتين» للمشكلة الإسرائيلية الفلسطينية فقد يُصر ترامب على رفض «حل الدولتين» (بحجة أنه غير واقعي) ويعود إلى ما اقترحه في عهدته الأولى مما سُمي «بصفقة القرن» ولكن ذلك لا يعني أكثر من اجتهاد في السياسة وليس تجاوزاً لعمل المؤسسات الأميركية الراسخة. إنها سياسات مناقضة نوعاً ما للسياسة الأميركية التي تبنتها معظم الإدارات الأميركية السابقة (إدارة أوباما، جورج بوش الأبن، كلينتون، كارتر...) ولكن بالقطع لا تعني بحال من الأحوال تجاهل دور المؤسسات الأميركية أو تجاوزها.
ومثال ثالث وربما أهم في هذا السياق وهو موقف ترامب من حلف «الناتو» الذي يُعدّ ركيزة السياسة الأميركية في أوروبا وفي العالم، فهو يرى أن دول الحلف يجب أن تساهم أكثر في كلفة هذا الحلف، وإلّا فإن عليها أن تواجه المخاطر مع روسيا. إنّ توجه ترامب هذا مخالف للسياسة الأميركية التقليدية القائمة على تحالف وثيق مع أوروبا ولكن التعامل مع الحلف على طريقة ترامب لا تعني -مرة أخرى- تجاوزاً لعمل المؤسسات الأميركية الراسخة.
خلاصة القول إن الولايات المتحدة بلد مؤسسات فعلاً ففيها مؤسسات عريقة عمرها من عمر الولايات المتحدة نفسها (وبالذات الرئاسة، والكونغرس، والمحكمة العليا)، ولكن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن فيها سياسات ثابتة، فالولايات المتحدة قوة كونية كبرى تتربع الآن على عرش العالم، ولذا فإنّ مصالحها تختلف من منطقه إلى منطقه، ومن مرحلة إلى أخرى، الأمر الذي يفرض حكماً اختلاف سياساتها وتوجهاتها وهو ما لا يغير بالتأكيد عمل مؤسساتها القوية والصلبة، وهذا بالتأكيد لا يتفق مع مقولة إن في الولايات المتحدة ما يسمى «بالدولة العميقة» التي تقرر السياسات والتوجهات الكبرى وأن الساسة لا يملكون إلّا تنفيذ هذه السياسات والتوجهات.
إنّ «الدولة العميقة» إذا أخذنا بهذه المقولة هي «المؤسسات ذاتها» وهي ليست صاحبة سياسات وتوجهات جامدة لا تتغير بل هي تتوافر على آليات عمل، وللساسة أن يعملوا ضمن هذه الآليات لخدمة المصالح الأميركية بالطريقة المثلى التي تؤدي إلى أفضل النتائج. ــ الراي