د. ماجد الخواجا : العالم يئن تحت وطأة المرض النفسي
تكاد تجمع الآراء أننا نعيش عصر المرض النفسي، فما يشهده العالم من ضغوطات الحياة وتوترات العمل وسرعة التغيير وفيضان المعرفة وتقادم الأفكار والتلاعب بالجينات وظهور الأمراض المرتبطة بالتغيرات البيئية والغذائية، مع ما يصاحب كل هذا من زيادة هائلة في أعداد السكان وازدحام المدن، كما أن تعدد البدائل المتاحة أمام أناس غير مدربين او مؤهلين للتعامل مع تلك البدائل، جعلهم يدخلون في حالات صراعية متواصلة وبدون أية حلول.
لقد حفل تاريخ علم النفس بالكثير من الأوهام والخزعبلات والممارسات المنافية للحقوق الإنسانية، ويذكر تاريخ علم النفس كيفية التعامل التي كانت تتم مع المريض النفسي والعقلي باعتباره مصاباً بالمس الشيطاني، حيث كان يتم عزله والحجر عليه كوباء ينتظر التخلص منه بأية وسيلة. ومع تطور العلوم والمعرفة، تطور الفهم والوعي المعرفي النفسي وتطورت أدوات هذه العلوم، لكن بقيت تلك النظرة الدونية للمريض النفسي وفي أفضل الحالات كان التعامل يتسّم بالشفقة أو التعاطف. فالمريض النفسي يقع بين حالتين: « المبروك أو المجنون». مع أنه مريض فقط كأي مرضٍ يصيب أي إنسان.
إن كلمة ( مجنون) هي من الكلمات الدارجة على ألسنة الناس وفي وسائل الإعلام، بالرغم من أن علماء النفس يؤكدون في كافة المحافل أنه لا يوجد تعريف علمي رصين لمثل هذه الكلمة أي (الجنون).
كما أن المفاهيم النفسية المستخدمة في توصيف الظواهر التي يعاني منها الأفراد تتصف بالتعسّف وبالتحيّز وبالسلبية، بحيث تضفي على المريض النفسي عبئاً إضافياً لا ذنب له فيه يتمثل بتكوين فكرة عنه من خلال وصمه بأحد المفاهيم النفسية، كأن يقال عنه بأنه مصاب بالعته أو المنغولية أو الاكتئاب او الهلوسة أو الفصام أو الهستيريا وهكذا. لقد تماهت تلك المفاهيم النفسية بشكل يمكن القول أنه ينطبق عليه تداعي المعاني، فما أن ننطق بمفهومٍ من المفاهيم النفسية إلا وتتداعى مجموعة من الصفات التي نلصقها بالشخص المقترن بالمفهوم.
في كل هذا لم ينج الإعلام من الاستدراج نحو ذات المستنقع من تداعي المعاني وشيوع خطأ استخدام المفاهيم النفسية. إنه بالقدر الذي تطورت فيه العلوم النفسية، فقد تطورت أساليب الدجل والشعوذة والتي تورطت فيها وسائل إعلام عبر بثّها لكل ذلك الوهم والكذب.
لقد قامت منظمة الصحة العالمية بالإعلان عن يوم العاشر من أكتوبر من كل عام باعتباره « يوم الصحة النفسية» حيث يتم الاحتفال به في دول العالم مع وضع الأرقام والتقارير الخاصة بالصحة النفسية.
تشير الأرقام إلى وجود مليار شخص على الأقل مصاب باضطراب نفسي في العالم، أي بمعدل فرد لكل ثمانية أفراد، وهو رقم كبير جداً ينبغي التوقف عنده والنظر إليه كأزمة عالمية عظمى. فالخسائر المادية تقارب التريليون دولار من الاضطرابات النفسية، هناك خلط للتعريفات المفاهيمية بين التعريف العلمي والتعريف المجتمعي للأمراض النفسية.
دور الإعلام في الصحة النفسية ونشر مفاهيمها، كان في الغالب منقاداً لآراء وتوجهات وثقافة المجتمع السائدة، والتي كانت عبر التاريخ تتعامل مع المرض النفسي كوباء أو خطيئة أو عقاب إلهي أو تجليات ربّانية تتجسد في شخص المريض النفسي. ما زال الإعلام والقانون والمجتمع يفتقرون للمفاهيم النفسية العلمية السليمة. نادراً ما تجد فهماً صحيحاً لكلمة هستيريا أو فصام أو هوس أو قلق أو مخاوف مرضية أو أوهام العظمة والاضطهاد ( البارانويا) أو الشخصية ضد المجتمع ( السيكوباثي). وما زالت مفاهيم مغلوطة عن الحالة النفسية لكنها منتشرة ومقبولة ومتعارف عليها مجتمعياً كأن نقول عن هذا مجنون وذاك مخرّف وآخر معتوه وغبي ومتخلف ومعقّد أو معاق نفسياً وأهبل ومتعب نفسياً ومهلوس وغيرها.
لقد تم استدراج الإعلام ليتماشى مع الفهم المجتمعي السائد حول المفاهيم النفسية المختلفة، وقد انعكست النظرة السلبية للمجتمع تجاه المرض النفسي باعتباره شيئاً معيباً ومخجلاً وينبغي التنصّل منه وعدم الاعتراف به، وليس أدل على ذلك من مراجعة المصطلحات المستخدمة علمياً لتوصيف بعض الظواهر المرضية التي تم التعسّف بإسقاط مفهوم العيب عليها.
خطورة الأمر تتعدى ذلك عندما تشير أرقام الدول على إحصائيات الاتحاد العالمي للصحة النفسية عن وجود ما نسبته 70-80% من المرضى النفسيين الذي يحتاجون للمعالجة هم خارج حسابات أي علاج في مراكز ومستشفيات الصحة. هذا الرقم الذي يعتبر بالمنطقة المظلمة المجهولة أو الجبل الجليدي المخفّي يبيّن درجة استفحال المشكلة والأزمة في كيفية التعامل مع الصحة النفسية كمفهوم اجتماعي رئيس ضمن مفاهيم السلم والأمن الاجتماعيين. ــ الدستور