الأخبار

سامح المحاريق : من اللبنة والشماغ المهدب للروبوتات والطائرات المسيرة.. فصول من قصة التنمية بالأردن

سامح المحاريق : من اللبنة والشماغ المهدب للروبوتات والطائرات المسيرة.. فصول من قصة التنمية بالأردن
أخبارنا :  

أخفقت الدولة الأردنية في استيعاب المتغيرات العالمية التي أعقبت سقوط المعسكر الشيوعي في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، مع أنها كانت في حاجة ماسة للتعامل بصورة استباقية مع المعطيات الجديدة، فالمسألة تجاوزت جانبها السياسي وأثره على العلاقات الدولية، ليلقي بظلاله الثقيلة على الاقتصاد الاجتماعي في الأردن.

لم يكن المعسكر الشرقي وحده الذي ينهار مع أحجار جدار برلين، فالأهم من ذلك كان تساقط نموذج الدولة ذات الدور الاجتماعي بوصفها أداة التشغيل والتوزيع والمحرك الرئيسي للاقتصاد بالمجمل، فهذا النموذج كان يحظى بالدعم والتمويل لأنه أداة مواجهة مع نموذج آخر، وبتغيب التهديد الشيوعي، لم يعد ثمةَ من يمكنه أن يدافع أو يجادل بضرورة بقائه.

في هذه المرحلة كانت الأردن من الدول التي تورطت بصورة كثيفة في النمط المعتمد كليًا على الإنفاق العام، فالجميع يأكل من الدولة ومؤسساتها، والأردنيون الذين كانوا يعملون في المهن والزراعة حتى الخمسينيات، أصبح يعانون من اعتماد مفرط على الوظيفة الحكومية، لدرجة أن بلدًا بإمكانيات محدودة مثل الأردن أصبح يستورد العمالة في مجالات البناء والصناعة والزراعة.

حرب الخليج وتأثيراتها الاقتصادية والديمغرافية على الأردن، جعلت الأردن يتصرف في حدود خيارات الخصخصة، لأنها توفر أرضية لإعادة هيكلة الاقتصاد، ولأن التغيير على مستوى ثقافة الإنتاج في المجتمع يحتاج إلى فترات طويلة من الزمن، كما أتت اتفاقية السلام في أوسلو، وبعدها وادي عربة، ومجريات سياسية عامة، لتؤجل عملية التحول الاقتصادي، لتصبح الملف الأكثر إلحاحًا مع بداية الألفية الجديدة، وكانت الملفات كثيرة ومتداخلة.

وفجأة أصبح الاهتمام في الأردن على المهن المنزلية، وتكاثرت الجمعيات التي تعني بالإنتاج الصغير في المنازل، الأسر المنتجة أو المشروعات الفردية، وكانت هذه المسألة ضرورية لأنها تقدم تحولًا ثقافيًا ضروريًا وتأسيسيًا لتحول الحكومة لأداة لخدمة المجتمع لا لرعايته، ولم يكن سوى شخص مضلل أو مضلل – بعلامة الكسر على اللام الثالثة في الأولى، والفتح في الثانية - من يعتقد أن التطريز أو صناعة اللبنة يمكن أن تقدم حلًا اقتصاديًا بعيد المدى، وكان المطلوب هو الدخول في نمط تصعيدي وتأهيلي يتم من خلال برامج التخرج، وهي التي لم يعمل الكثيرون على رعايتها بصورة منهجية واكتفوا بقصص النجاح ليغلقوا أجهزتهم المحمولة ويعتقدوا أنهم أنجزوا مهمتم.

في مرحلة لاحقة أتت ريادة الأعمال بوصفها نقلة من إمكانية تحقيق نموذج التشغيل الذاتي، إلى نموذج يمكنه استيعاب التشغيل في المجتمعات المحلية، وأيضًا كان يجب أن يرتبط بمرحلة أخرى من برامج التخرج، وهو ما كان يحدث في بعض الحالات، وبالمناسبة، فإن صندوق الملك عبد الله الثاني للتنمية كان شريكًا في اختبار نماذج التخرج بينما اكتفت كثير من المنظمات بالعمل على الشكلي والمظهري، وأحيانًا الاستعراضي، فعلى المستوى الميكروي والصغير، كان التعاون مع برنامج الخليج العربي للتنمية (الأجفند)، يعمل على مساندة مئات المشاريع الصغيرة للتحول إلى شركات تعمل وفقًا لنماذج النمو والاستدامة، وعلى مستوى المشاريع الابتكارية، كانت أوسيس 500 تقوم بأدوار مهمة، وقدمت للسوق الأردني شركات مثل مدفوعاتكم، ودعمت مشاريع تكنولوجية مثل تطبيق أبجد الذي يقود صناعة النشر الإلكتروني في المنطقة العربية كلها.

التجربتان السابقتان كانتا مدخلًا لتواجد الصندوق هذه المرة في معرض سوفكس للعمليات الخاصة، وهو معرض عسكري متخصص، وربما كان مستغربًا في البداية أن يتواجد الصندوق التنموي بطبيعته في مناسبة تستعرض التكنولوجيا العسكرية، إلا أن ذلك كان مدخلًا لموجة ثالثة من العمل التنموي قدم من خلالها الصندوق مجموعة من مشاريع الشباب الذين تلقوا دعمًا من الصندوق، وكما يقولون بأن الأمر شارح لذاته، فيكفي قراءة بعض أسماء المشاريع ومنها روبوت ذاتي الحركة لتحسين عملية الإنقاذ للإنسان تحت الأنقاض (VINDEX I)، واستحداث الحركة في الأطراف المشلولة باستخدام التحفیز العصبي، ونظام أمن اتصالات المركبات في المدن الذكية، ونظام فرز النفايات باستخدام تقنية الذكاء الإصطناعي، والخوذة العسكرية الذكية، والأخيرة قدمت نموذجًا أردني الصنع بتكلفة متواضعة قياسًا بالنماذج التي طرحت في السنوات الأخيرة وتصل تكلفتها إلى أكثر من 12 ألف دولار أمريكي.

الحضور كان يتضمن رسالة للعاملين في الحقل التنموي للخروج من المناطق الدافئة والمريحة للاشتباك مع احتياجات نوعية في عالم يدخل بيئة تنافسية جديدة، وحيث التكنولوجيا هي المجال الخصب، وتحقيق التخرج أو التراكم في هذه المرحلة يتطلب يقظة من القطاع الخاص، وروحًا للمبادرة، فالأردن عمليًا يتوفر على معظم المتطلبات ليضع قدمًا في هذه المجالات، ومنها وفرة الدارسين للتخصصات الهندسية، قياسًا بأي بلد عربي آخر، وبذلك كان يمكن أن تفهم الرسالة من وجود الصندوق في هذا التوقيت ليعلن عن مقاربة جديدة للتنمية، تستند إلى تفاعلات عالمية لا يجب أن نتغافل عنها تحت أي مبرر مثلما حدث قبل أكثر من ثلاثين عامًا.

هل نبدو طموحين في الأردن؟ جزء من ذلك طموح، والأهم منه هو الضرورة، فالحرب بين روسيا وأوكرانيا التي دفعت كلا البلدين إلى طلب الطائرات المسيرة من حلفائهم مثل إيران وتركيا كان حدثًا فارقًا في تاريخ الصناعات العسكرية، وهو الأمر الذي يعتمد على كثافة الموارد البشرية في مجال التكنولوجيا، وجميع الدول المتقدمة تعاني من إشكاليات في هذا الجانب تحديدًا لدرجة القفز بتكلفة التسليح والأمن إلى حدود فلكية، مع أن المعادلة أصبحت مختلفة، فالطائرة العسكرية من طرازات الفانتوم أو الميج تكلف عشرات الآلاف من الدولارات في الغارة الواحدة، ويمكن أن تستهدف معسكرًا صغيرًا تتكفل به طائرة مسيرة صغيرة تكلفتها بالكامل أقل من تكلفة بضعة دقائق من الطيران للمقاتلات المتقدمة، في حال وجدت بالطبع الفنيين القادرين على تصنيعها وتسييرها في العمليات القتالية.

يفتح الملك الطريق لتوظيف الصندوق لخدمة هذه الغايات الطموحة، وتبقى الاستجابة من المؤسسات الفاعلة، ومعها القطاع الخاص، هي المطلوبة من أجل تحقيق التخرج بالصورة اللائقة، وإن تكن الشيوعية خرجت من المنافسة في مجال الحلول لمشكلات العالم وتحدياته، فإن واحدًا من مقولاتها المؤسسة يبقى قائمًا بصورة مستمرة ويعكس صلاحيته مع الوقت، وهو قانون تحول الكم إلى كيف، وصراحًة لم يكن لنصل إلى مرحلة تخريج شباب أردنيين قادرين على المنافسة فعليًا من غير بنية اقتصادية استطاعت أن تدخل مجال الصناعات الصغيرة في البيوت، وبعدها مبادرات التشغيل في المجتمعات المحلية، لأنها، هي التي تمكنت من الحيلولة دون المضي في الطريق الخاطئ لسنوات أخرى إضافية، لا نتحمل ولا بأية حال التكلفة المطلوبة لاستمرارها كأداة للتسوية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

يبقى من المهم الإشارة بوضوح أن دور المؤسسة التنموية هو تقديم الرؤية والتجربة وصياغة النموذج الملهم، وبذلك يمكن الحكم على أدائها، ويبدو أن تجربة الصندوق تمكنت من القيام بذلك في السنوات الأخيرة في وسط صعوبات متعددة وتحديات متتابعة، إلا أن التنمية بالمعنى الواسع والشمولي، مسؤولية الجميع، ابتداء من المشرع الذي يقدم القانون العصري، والسلطة التنفيذية التي توفر الممكنات اللازمة والضرورية لتحقيق التنمية، والسلطات الرقابية التي تتأكد من تذليل أي انحرافات أو خروج على المسار المطلوب، وهذه ملفات أخرى يمكن العودة لها في الحديث عن التنمية وتجربتها داخل عملية الهيكلة والتكيف الاقتصادي والاجتماعي التي لم يكن يوجد مناص من خوضها، وليس يوجد مستقبلًا. ــ الراي

مواضيع قد تهمك