رمزي الغزوي : قبل قلب الثياب
كانت جداتنا الطاعنات بالمحبة العامرات بالبركة إذا ما قل المطر وتأخر وقاربت الدنيا إلى المحل أو القحط، يعمدن إلى قلب ثيابهن إظهاراً للحاجة والتضرّع، ويقعدن على عتبات البيوت بسكينة ويلهجن بالاستغفار، ثم يحركن الرحى فارغة (حجران دائريان من الصوان تستخدم لطحن الحبوب)، وكأنهن يجرشن الهواء بدل القمح في إشارة صامتة إلى أننا يا إلهنا قد جفَّ الضرع ومات الزرع، فجد بالغيث علينا.
نتوق إلى رائحة التراب الممطور، ونتلهف إلى برق مبهج في أفق المغيب. ونتشوق إلى مطر تنسج خيوطه بهجتنا ومسراتنا، فنصحو على أصابعه الرقيقة تطرق بخفة فوق الشبابيك، ونغفو على زغردة المزاريب المنداحة من أسطح البيوت، وكم نحنُّ إلى هزيم رعد يوقظ سبات الأرض وسباتنا.
تبدلت اشياؤنا، وتغيرت طقوسنا، ولم تُبتلَ الأرض وحدها بثقب بالأوزون وبانحباس حراري مقيت، بل نحن الذين انحبست مشاعرنا وتبلدت ولم نعد نحلم بالمطر أو نحس بغيابه وقلته، فقديماً كانت الدنيا توسم (أي ترتوي بالمطر) في أيلول وتشارين وها نحن في أواخر كوانين، ولم تتبلل سجادة ترابنا بعد.
كان يشيع في قرانا حال تأخر المطر، أن تتجمع بعض الصبايا ويحملن خشبة على شكل فزاعة، يلبسنها ثياباً مهترئة ويشكلنها بهيئة امرأة تسمى «أم الغيث». الصبايا المفعمات بالبهجة وحب المطر والقمح كنَّ ينطلقن في الطرقات، ويرددن أغنية مليئة بالشجن المجروح، والرجاء المستكين، والابتهال البسيط: يا أم الغيث يا ربي/ تسقي زرعنا الغربي/ يا أم الغيث يا دايم / تروي زرعنا النايم.
في حمى حياتنا الاستهلاكية الشرهة نسينا حالنا ونسينا المطر، ولم تعد تلك الحسرة على تأخره تنتابنا أبداً، ولا أريد أن نقلب ثيابنا إظهارا للتواضع، بل أن ننزع عنا بعض قشورنا، وكبرياءنا الزائف، وشموخنا الوهمي، فيا ربنا، ندري أننا خربنا الأرض، حتى ضجت بالزلازل والبراكين والأعاصير، وأننا ثقبنا الأوزون، وزدنا الغازات التي رفعت درجة حرارتها وعصبيتها، لكنك الرحيم الكريم فاسقنا مطرك القريب.
هناك دعوة من وزارة الأوقاف إلى صلاة استسقاء عقب صلاة الجمعة من يوم غد في جميع مساجد المملكة، وفي العادة يقلب الناس ثيابهم خلالها؛ فيجعلون باطنها تجاه السماء تيمناً بأن تنقلب سنة القحط، وتتبدل الحال.
ولكن قبل أن نقلب ثيابنا لنتذكر فقط أن نقلب قلوبنا، ونطهرها ونعمرها بالمحبة. ــ الدستور