بشار جرار :تلقيم المسيء علقم إساءته
تعلو عقيرة المسيئين للأردن، كلما ارتفعت وتيرة نجاحاته، أو زادت خيبات المشككين بسياساته، أو انهارت مزاعم وافتراءات الجاحدين بمواقفه. حفظ التاريخ للأردنيين -انتماء وانتسابا- قبل قرن ونيّف، قبل قيام الأردن إمارة فمملكة، وقبل نهضة أحرار المشرق وثورة العرب الكبرى، كيف تعامل الهواشم مع ذلك «المُبغِض القال» الذي كان وعيده بالهلاك. يعلم القارئ في تاريخ الوطن والأمة، أن صاحب هذا الوعيد هو رابع الخلفاء الراشدين، وهو أول من تعرض لغدر الخوارج الذين عرفوا بهذا الاسم لخروجهم على الإمام عليّ -كرّم الله وجهه.
خوارج هذا الزمان -سوّد الله وجوههم بصحيفة أعمالهم النكراء- هم أكثر سوادا وأشد ظلما. المسألة ما كانت أبدا محصورة بتسميات تنظيمات عصابية كداعش وأخواتها وأمهاتها، ولا بنظم راعية أو متهاونة معها حتى ينتهي «الغرض منها». الغرض معروف كما تدل البعرة على البعير! الخسة والنجاسة التي وصلت إليها بعض المحتويات المسيئة بحق الأردن غير مسبوقة في مستواها الدنيء مما يشير إلى مدى الضغط الذي يعاني منه المسيء.
لحين نفاد حجارة أولئك المتطاولين على أشجارنا الباسقة المثمرة، من غير المفيد خلط بعض الذين يبادرون إلى الرد على تلك الحملات الخبيثة المبرمجة، بين التعامل والتعاطي مع الإساءة والمسيئين. ثمة فوارق جوهرية. التعامل ممكن دون تعاطي سموم ما يروجه المسيء ويخدم برمجيات وسرديات أولئك النفر البائس، وتلك الجماعات الساقطة من راشقي سهام الغدر عن بعد، وقد تلطّوا ولاذوا بأوكار ومراتع نحسن الظن بظروفها، فنرى صدور الإساءات من بلادهم ظرفا عابرا لا يقال فيه إلا «سلاما».
لكن ما القول في إساءة المسيئين من الداخل؟ ما العمل مع من يصرون على تحدي مشاعر الناس لا صبر الجهات المختصة فقط؟ التماهي سجعا ورجعا للصدى صار يصم الآذان ويزكم الأنوف. سيرتهم الأولى هي هي، تبدأ فحيحا رويدا رويدا حتى يصير الأمر سافرا في عدوانه، لدغا ولسعا. ورغم عدم امتلاكها سمية الأفاعي والعقارب، إلا أن الحرابيّ تفوق الزواحف والحشرات سميّة على المدى البعيد. فالحرباء متلونة في طبعها مدى الحياة، ولا حاجة لها كما الحية إلى تبديل جلودها عندما تضيق بها، هي الحليف الاستراتيجي لما سبق من الزواحف، إضافة إلى الغربان والضباع لتكتمل بذلك دوائر بغيهم وغيّهم. وهذا يتطلب سرعة التعامل مع الرأس لا الأذناب. التعامل يبدأ بالألف لا بالياء ولا بالميم!
حتى في أكثر الدول ديموقراطية وتسامحا مع الأقوال والأفعال المعارضة، عندما تصل الأمور إلى العبث بالأمن يتم استخدام القوة الغاشمة أو المفرطة، وقطع الإنترنت، وتجميد حسابات بنكية، ومصادرة عقارات وأراض وأموال، وإلغاء منح، وإبطال إقامات، وترحيل وسحب جوازات سفر، مؤقتة كانت أم دائمة.
ولهذا حديث آخر إن سمح المقام، لكن الموجة الأخيرة من الإساءات في الأيام القليلة الماضية تجاوزت الحدود كلها. من غير المعقول التردد في التعامل مع المسيئين بجميع الأدوات المتاحة قانونية، لكن دون الوقوع في فخ التعاطي مع المحتوى الساقط شكلا ومضمونا. في الإعلام التقليدي والجديد، تعتبر مقولة «ناقل الكفر ليس بكافر» سيفا ذا حدين.. كثير من الأسهم الغادرة المنقوعة بالسم الزعاف، لا تصل إلى صدورنا وظهورنا إلا بفاعل خير -سامحه الله- لم يأخذ بنصيحة رذل الرذيل وإماتة الباطل بإهماله وتركه حتى «يِنْشَفْ ويْموت» كما كوفيد التاسع عشر!
الدفعة الأخيرة من المحتويات الساقطة لا حل لها إلا بالتعامل مع أصل المكان والشخص والجهة (واجهة النضح بالإساءات). لكل اعتبارات دبلوماسية، ولكل أدوات بالإمكان تفعيلها. لا بد من «غضبة» فيها من الفزعة والشدة ما يوقف أولئك الأشقياء عند حدهم قبل وبعد معاتبة مضيفيهم، أشقاء وجيرانا، شركاء وحلفاء..
العتب طبعا على قدر المحبة، فلم يسمح الأردن -بقوة العرف قبل القانون- لأي كان الإساءة للآخرين، فما بالك للشقيق بروابط العقيدة أو الجيرة أو المواطنة داخل ربوع الوطن المفدى أو خارجه؟ بإمكان تلقيم المسيء علقم إساءته دون إعادة نشر سمومها..
ــ الدستور