اسماعيل الشريف يكتب : الاغتيالات
«إذا تكلم ناصر، أصغت الأمة العربية» – أحمد سعيد
انتهت جولة جديدة من الحرب بين حزب الله والكيان الصهيوني. ولعلّ من أبرز الدروس التي ينبغي على المقاومة استيعابها هو ضرورة التصدي لسياسة الاغتيالات التي يعتمدها الاحتلال الصهيوني كأداة رئيسية لتحقيق أهدافه.
يحفل التاريخ الدموي للصهاينة بسياسة الاغتيالات التي استهدفت أعداءهم بشكل ممنهج، وهي سياسة برزت بوضوح خلال طوفان الأقصى، حيث اغتالت قيادات بارزة في حماس وحزب الله، كان من أبرزهم إسماعيل هنية وحسن نصر الله.
يمكن تفسير حملة الاغتيالات التي ينفذها الكيان الصهيوني بعدة أسباب، من بينها: إضعاف الحركات المقاومة وشل قدرتها العملياتية، ضرب الروح المعنوية لأعضائها وأنصارها، إحداث الفوضى في صفوفها، وتحقيق تأثير رادع يمنع أي تصعيد مستقبلي.
في مقدمته الشهيرة، أشار ابن خلدون إلى الدور المحوري الذي يلعبه الفرد في المجتمعات العربية وتأثيره العميق على مجرى الأحداث. لكنه في الوقت ذاته لم يغفل أهمية العوامل الأخرى، مثل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية، التي تسهم مجتمعة في تشكيل مسار الدول وصمودها أمام التحديات.
وقد برزت ظاهرة الفرد بشكل جلي في التاريخ العربي الحديث، حيث تحولت إلى نوع من تقديس الأفراد وتمجيدهم، خاصة في الأنظمة الجمهورية ذات الطابع الثوري. ظهر ذلك بوضوح في العديد من الدول العربية، حيث تم تقديم الزعيم كالمُنقذ والمُحرر، وأصبحت صورته وخطاباته محورية في الحياة العامة ووسائل الإعلام. بل ووُضعت عليه هالة من القدسية، مما جعله يحتل مركزية شبه مطلقة في وجدان الشعوب ومسار الأحداث.
مع مرور الوقت، تفاقمت هذه الظاهرة، وأصبح الزعيم محور الدولة ورمزها الوحيد، مما جعل من الصعب فصل شخص الزعيم عن كيان الدولة. وربما كان هذا أحد الأسباب التي دفعت الكيان الصهيوني إلى استهداف واغتيال أبرز قيادات أعدائه، إدراكًا منه أن تغييب القادة البارزين يمكن أن يزعزع استقرار تلك الحركات أو الدول، بالنظر إلى مركزية القائد في بنائها ووجودها.
على سبيل المثال، نجح حسن نصر الله في بناء صورة الرجل الذي لا يُقهر، حيث ترسخت فكرة أن كاريزميته وحنكته القيادية هما العاملان الرئيسيان وراء قوة حزب الله وبروزه على الساحة الإقليمية. أصبحت خطاباته محط أنظار الجميع، ليس فقط في لبنان والعالم العربي، بل على المستوى الدولي. نشأت حوله أسطورة، كما نشأت حول صدام حسين والقذافي وعبد الناصر، الذين تم تصويرهم كرموز قومية وقادة استثنائيين. وقد حاول الكيان الصهيوني، عبر استهداف القادة، تحطيم هذه الأساطير لإضعاف الروح المعنوية للجماهير. فالهدف كان واضحًا: نشر اليأس والخوف في صفوف الأتباع، إذ كلما كان القائد أكبر في المخيلة الجماعية، كانت الهزيمة الناجمة عن غيابه أشد وأعمق أثرًا.
على الجانب الآخر، رأى ابن خلدون أن الروم – في إشارة إلى الغرب، ويمتد التشبيه إلى قيادات الكيان الصهيوني ذات الأصول الغربية – قد طوروا أنظمة ومؤسسات قوية قادرة على إدارة شؤون الدولة حتى في غياب قادة أقوياء. لم تعتمد هذه الأمم على الأفراد بقدر اعتمادها على مؤسسات راسخة تدير شؤونها بشكل منهجي، مما منحها قدرة أكبر على الصمود والاستمرارية، وجعلها أقل عرضة للاضطرابات الناتجة عن غياب أو ضعف القيادة.
يُحسب للأردن كونه دولة مؤسسات تعتمد على نظام متماسك لإدارة شؤونها. تقوم المؤسسات الدستورية، مثل البرلمان والقضاء والقوات المسلحة، بأداء وظائفها وفقاً للقوانين والأنظمة، مما يعزز استقرار البلاد ويُكرّس سيادة القانون. إضافة إلى ذلك، يعتمد الأردن على شبكة من المؤسسات التعليمية والصحية والإدارية التي تسهم في تعزيز التنمية وتحقيق الأهداف الوطنية. تعمل الدولة على تعزيز الشفافية والحكم الرشيد من خلال مؤسساتها التي تسعى باستمرار إلى الإصلاح وتطوير أدائها، مما يُسهم في ضمان استقرار البلاد.
عندما أجلس مع الأصدقاء الذين يجهلون أسماء الكثير من المسؤولين أو ينتقدون حضورهم ، أجد نفسي أرد بأن هذه الظاهرة ميزة وليست عيبًا. فهي تدل على أن الدولة تعمل وتقدم خدماتها عبر مؤسساتها، بمعزل عن محورية الأفراد. وهذه نقطة قوة تُبرز استقرار المؤسسات واستقلالها. على العكس، فإن «الكاريزما»، التي غالباً ما يُبالغ في تقديرها في السياق العربي، كانت سبباً في كثير من الأحيان لما وصلت إليه الأمة من ضعف وتراجع، حيث تمحور مصير الدول حول أشخاص بعينهم بدلاً من بناء أنظمة مستدامة ومؤسسات قوية.
وأختتم بما قاله ابن خلدون، إذ أشار إلى أن من أبرز أسباب انهيار الدول هو «التعصب». هذا التعصب يبدو واضحاً ومتزايداً في الكيان الصهيوني، الذي تُظهر سياساته الإقصائية وأيديولوجيته العنصرية أنه يسير على طريق محفوف بالمخاطر. فالتعصب لا يقتصر على محيطه الخارجي، بل يمتد ليزرع الانقسامات داخلياً، مما يجعله عامل ضعف يؤدي، عاجلاً أم آجلاً، إلى تفكك هذا الكيان وانهياره. ــ الدستور