الأخبار

د. ناديا نصير : الشتاء من الداخل: قراءة نفسية في ثِقل الأيام القصيرة

د. ناديا نصير : الشتاء من الداخل: قراءة نفسية في ثِقل الأيام القصيرة
أخبارنا :  

مع اقتراب الشتاء، لا يتبدّل الطقس وحده، بل تتبدّل النفس أيضًا. تنخفض الطاقة، يتباطأ الإيقاع الداخلي، وتصبح الأيام أقصر من قدرتنا على الاحتمال. ليس ذلك كسلًا ولا ضعفًا، بل تفاعل طبيعي وعميق بين الجسد والضوء، بين كيمياء الدماغ وتقلبات المناخ.
الشتاء ليس مجرد فصل، بل حالة وجدانية كاملة. يقلّ فيه التعرّض للضوء الطبيعي، فينخفض إفراز هرمون السيروتونين المسؤول عن المزاج الإيجابي والنشاط، بينما يزداد إفراز الميلاتونين المرتبط بالنوم والهدوء. النتيجة شعور عام بالبطء، ميل للعزلة، وتقلّبات مزاجية قد تبدو غير مبرّرة، لكنها في حقيقتها استجابة بيولوجية ونفسية متوقعة.
كما يؤثر البرد على الجهاز العصبي والدورة الدموية؛ إذ يتجه الدم إلى حماية الأعضاء الحيوية، فينشأ إحساس بالثقل والإرهاق حتى دون جهد. عند هذه النقطة، يتحوّل الدفء من مفهوم حراري إلى حاجة نفسية. يصبح فنجان القهوة حوارًا، والبيت ملاذًا، والموسيقى رفيقًا يخفف وطأة الصمت، وتتحول التفاصيل الصغيرة إلى مصادر أمان.
في الشتاء، يميل الناس إلى الانسحاب قليلًا من العلاقات. ليس رفضًا للآخرين، بل لأن الجهاز العصبي يصبح أكثر حساسية للضوضاء والانفعالات. نبطؤ، نتأمل أكثر، ونفكّر بعمق أكبر. هذا الانسحاب قد يكون صحيًا حين يمنحنا مساحة لإعادة ترتيب الداخل، لكنه إذا تجاوز حدّه قد يتحول إلى عزلة مؤذية، وقد يصل لدى بعض الأفراد إلى ما يُعرف بالاضطراب العاطفي الموسمي.
ويُلاحظ كذلك تكثّف حضور الذاكرة في هذا الفصل. المطر يوقظ مشاهد قديمة، والبرد يعيدنا تلقائيًا إلى أول شعور بالأمان. يتجه الدماغ في الشتاء نحو التفكير الداخلي، فيعيد ترتيب ملفات مؤلمة وجميلة دون استئذان، ما يفسّر الثقل العاطفي المفاجئ الذي يشعر به كثيرون.
وفي العيادة النفسية، يكثر في الشتاء الحديث عن فقدان الدافع، وتراجع الشغف، والإحساس بأن الحياة أثقل من المعتاد. هذه الشكاوى لا تعني بالضرورة وجود اضطراب نفسي، بل غالبًا ما تعبّر عن استجابة طبيعية لجسدٍ يطلب إيقاعًا أهدأ، ونفسٍ تحتاج إلى رعاية أكثر حنانًا بدل جلد الذات والمقارنة المستمرة بالإنجاز.
المشكلة لا تكمن في الشعور نفسه، بل في تجاهله أو تفسيره كضعف شخصي. حين نفهم أن ما يحدث هو لغة الجسد في موسم مختلف، نتعامل مع أنفسنا بلطف أكبر، ونمنح التعب اسمه الحقيقي بدل أن نحوله إلى شعور بالذنب أو الفشل.
الحفاظ على الاتزان النفسي في الشتاء لا يكون بمقاومة الفصل، بل بفهمه. التعرض اليومي للضوء الطبيعي ولو لدقائق، الحركة الجسدية حتى داخل المنزل، تعزيز العلاقات دون إنهاك، وخلق طقوس شتوية دافئة تمنح الروح معنى كلها أدوات بسيطة لكنها فعّالة. كما أن الانتباه للإشارات التحذيرية مثل النوم المفرط، الانسحاب الحاد، أو فقدان الاهتمام، أمر ضروري ويستحق طلب الدعم عند الحاجة.
الشتاء يعلّمنا درسًا صامتًا: ليس كل بطء تراجعًا، وليس كل صمت فراغًا. أحيانًا نحتاج أن نهدأ لنفهم، وأن ننسحب قليلًا لنسمع أنفسنا بوضوح. في عالم يطالبنا بالسرعة الدائمة، يأتي الشتاء كفعل مقاومة هادئ، يذكّرنا بأن النفس، مثل الطبيعة، لها مواسمها الخاصة.
الشتاء ليس عدوًا، بل مرآة. يعكس ما في داخلنا حين تخفت الأصوات الخارجية، ويمنحنا فرصة نادرة لإعادة بناء العلاقة مع الذات على مهل. وحين نخرج منه، نخرج أكثر وعيًا، وأكثر صدقًا، وربما أكثر قدرة على الحياة لأن من تعلّم كيف يحافظ على دفء روحه في البرد، لن يخاف من أي فصل قادم.

مواضيع قد تهمك