فراس النعسان : حين يصبح الدفء قرين الموت
في كل شتاء، يعود البرد ليختبر هشاشتنا الأخلاقية قبل أن يختبر قدرتنا على
الاحتمال. وفي كل شتاء تقريبًا، تعود «مدفأة» لتذكّرنا بأن الموت قد يأتي
صامتًا، بلا صراخ ولا مقاومة، متسللًا عبر غازٍ لا لون له ولا رائحة، ليحصد
أرواحًا كانت تبحث فقط عن قليل من الدفء.
ما جرى في الأردن ليس حادثًا
عرضيًا، ولا يمكن اختزاله في خبر عابر أو بيان رسمي مقتضب. هو فصل آخر من
كتاب طويل عنوانه الإهمال المؤجل.
مدفأة لا تنفجر، لا تثير الذعر، ولا
تمنح الضحية فرصة للنجاة. هي قاتل هادئ، يعمل أثناء النوم، حين يتساوى
الإنسان مع ضعفه، وتصبح الحياة خيطًا رفيعًا بين شهيق وزفير. لذلك تبدو هذه
الوفيات قاسية على نحوٍ مضاعف؛ لأن الضحايا لم يخطئوا اختيار الموت، بل
اختاروا البقاء دافئين.
الخطأ الأكبر يبدأ حين يُلقى اللوم على الضحية:
«سوء استخدام»، «إهمال»، «عدم تهوية». هذه العبارات الجاهزة تُريح الضمير
العام، لكنها لا تُنقذ أحدًا. السؤال الحقيقي ليس: لماذا استخدموا هذه
المدفأة؟ بل: لماذا لم يكن أمامهم خيار أكثر أمانًا؟ ولماذا تُترك الأسواق
مفتوحة لمنتجات قاتلة؟
القضية هنا ليست تقنية فحسب، بل سياسية
واجتماعية في جوهرها. حين يصبح الدفء عبئًا ماليًا، يتحول الأمان إلى
رفاهية. وحين تُرفع أسعار الطاقة، ولا تُقابلها سياسات حماية حقيقية، يُدفع
الناس قسرًا نحو الأرخص، لا نحو الأسلم.
اللافت أن الكارثة تتكرر،
والوجوه تتغير، لكن المشهد واحد: بيانات تعزية، لجان تحقيق، حملات توعية
موسمية، ثم صمت طويل إلى أن يأتي الشتاء التالي. كأن الذاكرة العامة مصابة
بفقدان مؤقت، أو كأن الأرواح التي تُزهق لا تكفي لتغيير مسار السياسات.
ما
نحتاجه ليس منشورًا تحذيريًا على وسائل التواصل، ولا لافتة صغيرة في متجر.
نحتاج إلى قرار شجاع: منع استيراد وبيع كل وسيلة تدفئة غير آمنة، فرض
معايير صارمة لا تُساوَم، دعم حقيقي لبدائل التدفئة الآمنة، وحملة توعية
مستمرة لا موسمية، تبدأ من المدارس ولا تنتهي عند نشرات الأخبار.
الأخطر
من المدفأة نفسها، هو اعتيادنا على المأساة. أن نقرأ خبر وفاة عائلة
كاملة، ثم نتابع يومنا كأن شيئًا لم يكن. هذا الاعتياد هو الهزيمة
الحقيقية، وهو ما يمنح الكارثة فرصة للتكرار.
مدفأة الشموسة ليست مجرد
أداة تدفئة، بل امتحان أخلاقي. امتحان في قيمة الإنسان، وفي معنى الوقاية،
وفي القدرة على التعلم من الدم قبل أن يجف.
في النهاية، البرد قاسٍ، نعم.
لكن الأبرد منه أن نموت لأننا لم نحمِ الحياة كما يجب.