معاذ وليد ابو دلو : الأردن وحقوق الإنسان "قراءة بعد سبعة وسبعين عاما على الإعلان العالمي"
خلال هذا الأسبوع مرت الذكرى السابعة والسبعون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هذه الوثيقة التي جاءت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وما خلفته من آثار كارثية على البشرية، وما رافقها من تأسيس منظمة الأمم المتحدة وميثاقها الذي وضع الأسس العامة للأمن والسلام الدوليين. ومع اتضاح حجم الانتهاكات الإنسانية التي ارتكبت خلال تلك الحقبة وما سبقها في تاريخ البشرية، برزت الحاجة لوضع قواعد تأصيلية تعيد الاعتبار لكرامة الإنسان وحقوقه الجوهرية، فكان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948 بمثابة المنعطف التاريخي الذي حدد للمجتمع الدولي المبادئ الأساسية للحريات والحقوق والكرامات التي يجب أن يتمتع بها كل إنسان دون تمييز في كل بقاع المعمورة.
وقد شكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الأساس الفكري والقانوني لعدد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية اللاحقة، وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللذان اعتمدا عام 1966. فقد جاءت هذه العهود مكملة لنصوص الإعلان العالمي ومترجمة لمبادئه بطريقة أكثر إلزامية وتفصيلاً، لتصبح جزءا من البنية القانونية الدولية المعاصرة في مجال حقوق الإنسان. بذلك، أصبح الإعلان العالمي وثيقة المبادئ الأسمى في العصر الحديث، بينما أصبحت العهود الدولية الأداة القانونية الملزِمة التي تضمن تطبيق تلك المبادئ على أرض الواقع.
الأردن، ومنذ نشأته، تبنى نهجاً واضحاً في حماية حقوق الإنسان. فقد أدرك مبكراً أن احترام الحقوق والحريات ليس ترفاً سياسياً بل هو أساس للشرعية السياسية الداخلية والخارجية، ومقدمة لأي عملية إصلاحية او تقدم حضاري. وقد صادق الأردن على أغلب الاتفاقيات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وفي مقدمتها العهدان الدوليان، واتفاقية حقوق الطفل، واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيرها المعاهدات ذات الصلة . كما انخرط بفاعلية ضمن منظومة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ويقدم دائماً تقاريره الدورية أمام مجلس حقوق الإنسان واللجان التعاهدية، مما يعكس التزاماً رسمياً قانونياً وسياسياً بمسار تعزيز الحريات وكرامة الإنسان.
وتولي الدولة الأردنية عناية خاصة للحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، حيث تعتبر التجربة الأردنية، وفق العديد من المؤشرات الدولية ،من التجارب المتقدمة نسبياً في المنطقة فيما يتعلق بتعزيز قيم العدالة والمساواة وإتاحة الحريات العامة بالقدر الممكن، وقد انعكس ذلك من خلال تطوير البنية التشريعية، عبر إصدار قوانين جديدة أو تعديل قوانين نافذة لضمان انسجامها مع المعايير الدولية، مثل قانون منع التعذيب، وقانون المطبوعات والنشر، إضافة إلى التشريعات المتعلقة بحقوق المرأة والطفل وذوي الإعاقة.
ولعل أبرز محطة في مسيرة الأردن الحقوقية الضامنة لحقوق الإنسان هي إنشاء المركز الوطني لحقوق الإنسان قبل ما يقارب ربع قرن، والذي يعد مؤسسة وطنية مستقلة حاصلة على التصنيف دوليًا، تضطلع بدور رقابي وتوعوي مهم، وتقدم تقارير سنوية رصينة تتضمن توصيات حول أوضاع الحريات والحقوق في البلاد. ويعد هذا المركز أحد أبرز مؤشرات جدية الدولة في ترسيخ منظومة مؤسسية تستند إلى المهنية والحيادية في تقييم الواقع الحقوقي والإنساني.
أما من الناحية السياسية، فيمكن القول إن حماية الحريات والحقوق تشكل أساس استقرار الأنظمة السياسية، إذ لا يمكن تحقيق تنمية سياسية دون بيئة حاضنة لحرية الرأي والتعبير، وحق التجمع، وسيادة القانون، واستقلال القضاء. فالحقوق ليست مجرد شعارات، بل هي ضمانة لسلامة النظام السياسي، ووسيلة لتعزيز الثقة بين المواطن والدولة، وهو ما ينعكس بدوره على قوة الدولة وقدرتها على مواجهة التحديات.
يتضح بالسنوات الأخيرة الدور المحوري للأردن في السعي لتعزيز الإصلاح السياسي رغم ما يمر به من تحديات اقتصادية وإقليمية ضاغطة. فقد شهدت المملكة توسعاً في مسارات الإصلاح بتركيز خاص على تعزيز الحياة الديمقراطية والمشاركة الشعبية ، وتطوير القوانين المتعلقة بالأحزاب والانتخاب، وتمكين الشباب والمرأة، وتفعيل المشاركة السياسية ضمن إطار دستوري واضح. كما جاءت التعديلات الدستورية المتعاقبة لتعزيز الضمانات الحقوقية، خصوصا ً ما يتعلق بحماية الحرية الشخصية وترسيخ المبادئ.
ورغم ذلك، تبقى التحديات قائمة ولم نصل إلى ما نطمح إليه كناشطين حقوقيين وسياسيين؛ ولكن تعزيز حقوق الإنسان هو مسار تدريجي مستمر وليس نقطة وصول. ويتطلب ذلك جهوداً متواصلة لتطوير التشريعات، وتوسيع مساحة الحريات وتعزيز الشفافية، ومحاربة الفساد، وضمان استقلال القضاء. كما يحتاج إلى ترسيخ ثقافة حقوقية لدى المجتمع، تقوم على احترام القانون والقبول بالتعددية ونبذ خطاب الكراهية وقبول الأخر.
وفي ظل ما يشهده الإقليم من أزمات سياسية وأمنية، يبرز الأردن نموذجا متوازناً يسعى إلى التوفيق بين الأمن والحرية، وهي المعادلة الأصعب في الدول التي تواجه ضغوطًا داخلية وخارجية، ومن هنا يمكن القول إن الأردن، بالرغم من محدودية موارده، استطاع أن يثبت حضوره ويعزز مكانته كدولة تحترم الإنسان وتسعى لحماية حقوقه ضمن إمكانياتها وحدود قدراتها.
إن الذكرى السابعة والسبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليست مجرد محطة زمنية، بل هي مناسبة لتقييم الواقع وتعزيز المسار الإصلاحي والحقوقي. والأردن، بما يملكه من إرادة سياسية وإرث قانوني ومؤسسات وطنية فاعلة، قادر على مواصلة مسيرة حماية الحريات والحقوق والكرامات، بما يعزز استقراره السياسي ومكانته الدولية، ويرسخ قيم الكرامة الإنسانية والعدالة وسيادة القانون في المجتمع ــ الغد