الأخبار

د. ايوب ابو دية : الغابات في الأردن وتحدّياتها البيئية مع اقتراب عيد الشجرة

د. ايوب ابو دية : الغابات في الأردن وتحدّياتها البيئية مع اقتراب عيد الشجرة
أخبارنا :  

على مستوى العالم، تواجه الغابات ضغوطًا متزايدة، وقد فقدت الإنسانية خلال العقود الأخيرة أجزاء واسعة منها. تشير التقديرات الدولية الحديثة إلى أن العالم خسر نحو 10% من مساحة غاباته الطبيعية خلال العقود الثلاثة الأخيرة فقط. هذا التراجع الهائل يعود إلى إزالة الغابات بغرض الزراعة والتوسع العمراني والتجارة، إضافة إلى الحرائق وضرر التغيّر المناخي. وفي الأردن تراجعت مساحة الغابات في الفترة نفسها إلى نحو النصف، فباتت أقل من 1%.

تُعد منطقة شرق البحر المتوسّط غنية بالتنوّع البيولوجي، رغم محدودية مواردها المائية ومناخها الحار والجاف صيفًا. وتتميّز غاباتها بتركيبتها الفريدة التي تجمع بين السنديان والصنوبر والعرعر والخروب والبطم وأنواع شجرية أخرى تكيفت مع المناخ عبر آلاف السنين لتعيش في ظروف صعبة وبيئات متقلّبة. وفي السنوات الأخيرة، ازداد الاهتمام العلمي والبيئي بهذه الغابات لما تحمله من قيمة بيولوجية واقتصادية ومناخية كبيرة، ولما تتعرض له من تراجع في المساحة ونقص في التنوع الحيوي.

من بين الأنواع الأكثر حضورًا وقيمة في شرقي المتوسط: السنديان (أو البلوط)، والبطم، والصنوبريات والعرعر. ولكل منها دور بيئي حاسم وقدرة مختلفة على التأقلم مع الجفاف والحرائق. والسنديان هو الشجرة الأكثر انتشارًا في شرق المتوسط، ويعتدّ به في الأردن كالشجرة الوطنية، ويُعرف بقوته وطول عمره وقدرته على تثبيت التربة، حيث تمتد جذوره أفقيا لتثبيت الشجرة والتربة معا لمسافة ثلاث مرات ارتفاع تاج الشجرة.

ما يميّز السنديان هو قدرته على النمو الى ارتفاع 25 مترا، والوصول إلى ثمانية أمتار خلال 15 سنة، ويمتد عمره إلى مئات السنين. أما جذره الوتدي العميق فيصل في بعض المناطق إلى أكثر من عشرة أمتار، مما يسمح له بالوصول إلى الماء الجوفية في أعماق التربة. هذا الجذر العميق يكفل له مقاومة جيدة للجفاف، كما أنّ أوراقه الصغيرة الجلدية تحدّ من فقدان الماء وتصلح طعاما للمواشي. ورغم أن السنديان يتحمل الجفاف الموسمي، إلا أن مقاومته تظلّ أقل من مقاومة البطم والعرعر.

أما شجر البطم، وخاصة البطم الأطلسي والفستق البري، فيعدّ من أقوى الأشجار المتوسطية في مواجهة الجفاف، إذ تمتلك جذورًا شديدة العمق قد تصل إلى عشرين مترًا في التربة الرخوة، وتكفيه كميات قليلة جدًا من الماء ليبقى حيًا. كما أنّ أوراقه الغليظة ووتيرته البطيئة في النمو تساعده على تقليل الاستهلاك المائي. ويمثّل البطم شجرة مثالية للمناطق الانتقالية بين الغابات والمناطق شبه الجافة.

أما العرعر فيُعتبر من أكثر الأنواع قدرة على التحمّل في البيئات الجبلية الصخرية، ويستطيع العيش في مناطق شبه قاحلة بفضل جذوره التي تتسلل بين الشقوق الصخرية بحثًا عن أقل كمية من الرطوبة. أوراقه الإبرية تقلل التبخر، كما أنه يتحمل البرد والارتفاعات العالية والجفاف الطويل. لكنه، رغم قوته في مواجهة الجفاف، ضعيف جدًا أمام الحرائق بسبب احتوائه على زيوت وراتنجات شديدة الاشتعال.

تلعب قدرة الشجر على مقاومة الحرائق دورًا كبيرًا في تحديد مستقبل الغابات المتوسّطية، إذ تُعد الحرائق إحدى أكبر التهديدات في المنطقة. وفي هذا السياق، تختلف الأنواع الثلاثة في مقاومة الحرائق، فالسنديان هو الأفضل مقاومة للحرائق، إذ يمتلك لحاء سميكًا يحميه من الحرارة، والأهم من ذلك أنه قادر على إعادة النمو من الجذور بعد احتراق الجزء العلوي، وهو ما يعرف بظاهرة التفريع من الأصل.

أما البطم فيمتلك مقاومة جيدة للحريق، فهو أقل قابلية للاشتعال من العرعر وفروعه لا تشتعل بسهولة، كما يمكنه إعادة النمو بعد الحريق، لكنه لا يصل إلى قدرات السنديان في التعافي. بينما شجر العرعر فيبقى الأضعف بلا منازع، إذ يؤدي احتراقه غالبًا إلى موته الكامل. فوجود الزيوت الطيّارة في العرعر يجعل احتراقه سريعًا وشديدًا، ما يهدد وجوده في المناطق التي تتكرر فيها الحرائق. هذا الاختلاف بين الأنواع يعكس تنوّع الاستراتيجيات البيئية التي طورتها النباتات للبقاء في بيئة كثيرًا ما تتعرض للحرارة والجفاف.

خسارة الغابات لا تعني فقدان الأشجار فقط، بل فقدان النظم البيئية المعقدة التي تحتضن ملايين الأنواع من النباتات والحيوانات والكائنات الدقيقة. ومع كل جزء من الغابات نفقده، نفقد عوامل تحفظ استقرار المناخ، وتنقّي الهواء، وتحمي التربة، وتخزّن المياه. هذا التراجع يؤدي إلى ارتفاع الانبعاثات الكربونية، وزيادة معدلات الفيضانات والانهيارات وانجراف التربة والتصحر، وانخفاض الإنتاج الزراعي، وتراجع الموارد الطبيعية التي يعتمد عليها الإنسان.

وعندما تفقد الغابات تنوعها الحيوي، تبدأ سلسلة من الاضطرابات البيئية التي تهدد النظام البيئي ككل. فالتنوع البيولوجي يعني وجود أنواع عديدة تؤدي وظائف مختلفة: منها ما يهوّي التربة، ومنها ما يكافح الآفات طبيعيًا، ومنها ما يساعد في إعادة تدوير العناصر الغذائية. وعندما تختفي هذه الأنواع، تضعف قدرة الغابة على المقاومة والتجدد، وتصبح أكثر عرضة للحرائق والآفات والجفاف. كما ينخفض استقرار التربة وتزداد ظاهرة الانجراف، وتتراجع قدرة الغابات على امتصاص الكربون وتنقية الهواء.

بالنسبة للإنسان، تتجاوز آثار خسارة التنوع الحيوي الجانب البيئي لتصل إلى الصحة والاقتصاد والأمن الغذائي. فالكثير من الأدوية تعتمد على نباتات غابية، والكثير من الموارد الزراعية تتحسن بوجود غابات صحية قريبة. ومن الحقائق العلمية المهمة أن تنويع الأنواع الشجرية في البساتين والغابات يقلل بشكل واضح انتشار الأمراض. فالكثير من الأمراض النباتية تكون متخصصة في نوع واحد، وانتشارها يصبح أسهل في المزروعات الأحادية. فعندما تُزرع أنواع متعددة معًا (كزراعة التين إلى جانب الزيتون)، يصبح انتشار المرض أصعب، وتتقطع سلاسل العدوى.

كما يجذب التنوع النباتي حشرات نافعة ومفترسات طبيعية تساعد في خفض أعداد الحشرات الضارة. وتسهم بعض الأنواع في تحسين التربة أو إفراز مواد تحدّ من نمو مسببات الأمراض. لذلك، يشكّل التنوع الشجري درعًا طبيعيًا للأشجار المثمرة، مما يحسّن الإنتاج ويقلل الحاجة للمبيدات المضرة بالصحة.

وبناء عليه، فإن غابات شرق المتوسط تمثل كنزًا بيئيًا وموطنًا طبيعيًا غنيًا يعود تاريخه لآلاف السنين، لكنها تواجه تحديات كبيرة من الجفاف والحرائق وتراجع التنوع الحيوي. وبفهمنا للفروق بين الأشجار مثل السنديان والبطم والخروب والصنوبر والعرعر، يمكننا حماية هذه الأنظمة البيئية الحساسة بطريقة أفضل. كما أن الحفاظ على التنوع الشجري ليس ضرورة بيئية فحسب، بل أيضًا وسيلة فعّالة لدعم الإنتاج الزراعي وحماية الأشجار المثمرة من الأمراض. وفي مواجهة التغيّر المناخي العالمي، لم يعد الحفاظ على الغابات خيارًا وتنويع أصنافها، بل أصبح ضرورة لضمان مستقبل صحي ومستدام للإنسان والبيئة على حد سواء.

مواضيع قد تهمك