الأخبار

القس سامر عازر يكتب : أهمية توثيق السردية الأردنية

القس سامر عازر يكتب : أهمية توثيق السردية الأردنية
أخبارنا :  

القس سامر عازر

إن حديث سموّ ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني المعظّم أثناء زيارته إلى الطفيلة يوم الأربعاء ٢٠٢٥/١١/١٩ عن أهمية توثيق السردية الأردنية ليس مجرد توجيه ثقافي أو دعوة أكاديمية، بل هو نداءٌ وطنيّ عميق يستنهض همة أبناء وبنات الأردن لحمل مسؤولية رواية حكايتهم بأنفسهم، وبأصوات تنبع من الأرض التي عاشوا عليها وشكّلت وجدانهم عبر آلاف السنين. فالسردية الأردنية ليست نصًّا يُكتب على الورق فحسب، بل هي روح الأمة، وهويتها، ومرآة واقعها، وحافظة ذاكرتها، وجسرها نحو المستقبل.

إنّ تووثيق السردية الأردنية هو مشروعٌ تشاركيّ يبدأ من المواطن قبل المؤسّسة، من الراوي والصحفي والباحث والمعلم، ومن كلّ أردني يرى في نفسه شاهدًا على تاريخٍ حيّ، وامتدادًا لإرث حضاري لا ينضب. نحن الذين نحمل هذه الحكاية، ونحن الذين يحقّ لنا، بل يجب علينا، أن نكتبها بلغتنا وبأسلوبنا ونظرتنا، وأن نقدّمها للعالم كما هي: صادقة، واقعية، أصيلة، نابضة بالحياة.

فسرديّتنا يجب أن تنبع من واقعنا الذي نعيشه ونفهمه، ومن ثقافتنا التي ورثناها وأثريناها، ومن لغتنا التي تحمل ذاكرة المكان والزمان، لتكون الأقرب إلى الدقة والمصداقية، بعيدًا عن التزييف أو الاستيراد أو إعادة الصياغة وفق مقاييس الآخرين. وحين نكتب سرديّتنا بأنفسنا، فإننا نمنحها قوتها وشرعيتها، ونحميها من التشويه، ونجعلها مُلهمة للأجيال القادمة.

وللسردية الأردنية دور أصيل في تعزيز الانتماء الوطني وترسيخ الهوية الوطنية. فهي التي تجمع أبناء الوطن على قصة مشتركة، وعلى إدراكٍ بأن الأردنيين ليسوا مجرد أفراد يعيشون فوق أرض واحدة، بل هم امتدادٌ متصل لحضاراتٍ عبرت من هنا وتركت آثارها في الذاكرة والحجر. ومن خلال هذه السردية يتجدد الاعتزاز بتراثنا الإنساني والروحي والحضاري، ذلك التراث الذي لا يزال ينبض في مواقع تاريخية شاهدة على عراقة الأردن وفرادته.

فعين غزال، على سبيل المثال، هي أحد أقدم التجمعات البشرية التي عرفتها الإنسانية منذ أكثر من عشرة آلاف عام، وهي شاهدٌ على بدايات التنظيم الاجتماعي والفني. أما موقع عماد السيد المسيح في المغطس عبر الأردن، فهو شهادة حيّة على الدور الروحي العالمي للأردن، وعلى حضوره في قلب التاريخ المسيحي.

وإلى هذا الإرث العميق، تبرز أهمية جبل مكاور، الحصن الذي شهد استشهاد يوحنا المعمدان، شفيع الأردن، حيث قُطع رأسه في واحد من أكثر الأحداث رسوخًا في الذاكرة المسيحية. إن مكاور ليس مجرد موقع أثري، بل هو رمز للثبات والشهادة والإيمان، وبوابة لفهم جانب مهم من تاريخ الأردن الروحي.

كما أن معركة مؤتة تشكل محطة كبرى في تاريخ التلاحم الإسلامي–المسيحي على أرض الأردن، حيث امتزجت البطولة بالرسالة، وارتفعت قيم الشجاعة والوفاء، لتؤكد أنّ هذه الأرض كانت وما زالت ملتقى للأديان، وساحةً تُكتب فيها صفحات من الإيمان المشترك والعيش الواحد.

وتمدّنا الأرض الأردنية بإرث بيزنطي عريق، ما زالت كنائسه وفسيفسائه الممتدة من مادبا إلى جبل نيبو وأم رصاص والكرك وعمان وجرش وعجلون وأم قيس ورحاب وأم الجمال وطبقة فحل وغيرها الكثير تشهد على ازدهار المدن المسيحية وعلى الحضور الروحي والإنساني في هذه الأرض المقدسة. هذه الآثار ليست حجارة صامتة، بل هي ذاكرة حيّة تروي جمال الفن والعمارة والإيمان في فترات تاريخية مشرقة.

ولا يمكن للسردية الأردنية أن تتجاهل ممالك العمونيين والموآبيين والأدوميين، تلك الحضارات التي تركت نصوصها ونقوشها وممالكها شاهدة على عمق الجذور الأردنية وامتدادها في التاريخ. وإلى جانبهم، يأتي الأنباط العرب الذين شيّدوا واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية، وما زالت بترا — درّة العالم — تنطق بعبقريتهم الفنية والمعمارية، وبحضورهم العربي الراسخ.

وإلى جانب هذا الإرث العريق، تبرز ضرورة توثيق تاريخ الأردن الحديث، وتأسيس الدولة الأردنية على مبادئ الثورة العربية الكبرى، تلك المبادئ التي حملت شعار الحرية والوحدة والنهضة. فقد قامت الدولة الأردنية على قيم الاعتدال والعدل والمساواة، وعلى رسالةٍ عربية أصيلة. كما أن دور الأردن التاريخي في الدفاع عن فلسطين، والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني، وحماية ورعاية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، يشكل جزءًا لا يتجزأ من سرديتنا الوطنية، بل هو أحد أعمدتها الراسخة التي تعبر عن الثبات في الموقف، والالتزام بالواجب، وتحمل الأمانة جيلاً بعد جيل. إن الوصاية الهاشمية على المقدسات ليست مجرد مسؤولية سياسية أو دينية، بل هي امتداد لدور تاريخي أصيل يجب أن يتصدر أي سردية أردنية شاملة ودقيقة.

إنّ توثيق السردية الأردنية هو حفاظٌ على الذاكرة، وتأكيدٌ على الوجود، وصونٌ لما تركه الأجداد وتقديمه للأجيال القادمة لا كحكاية من الماضي، بل كنبراسٍ للمستقبل. وهو في الوقت ذاته مشروع ثقة: ثقة بأنفسنا، وبإمكاناتنا، وبأنّ صوت الأردني قادر أن يصل للعالم إذا امتلك سرديّته وروى حكايته كما ينبغي.

لذلك، فإن دعوة سموّ ولي العهد هي دعوة لكل أردني وأردنية ليكون راويًا وشاهدًا وناقلًا للأمانة. فالسردية الأردنية ليست ملكًا لمؤسسة أو نخبة، بل هي ملكٌ للوطن كله، ومسؤولية مشتركة نحفظ بها ذاكرتنا، ونبني هويتنا، ونمضي بها نحو مستقبل يليق بتاريخ هذه الأرض المباركة.

مواضيع قد تهمك