الأخبار

عماد داود : ماذا لو عاد منتصرًا؟

عماد داود : ماذا لو عاد منتصرًا؟
أخبارنا :  

عماد داود

ليس السؤال عن نتيجة مباراة، ولا عن كأس تُرفع أو ميدالية تُعلَّق. بل عن شيءٍ أخفّ من الكأس… وأثقل من الذهب! شيءٍ يشبه أن يعود شعبٌ إلى نفسه، أن يتذكّر فجأة، وسط هذا الركام الإقليمي والآلام الممتدة من غزة إلى أبعد نقطة في الضمير العربي، أنه ما زال قادرًا على الفرح دون شعور بالذنب!
اليوم ، حين يلتقي المنتخب الأردني بالمنتخب المغربي في كأس العرب، لن تكون الكرة وحدها في منتصف الملعب. ستكون الذاكرة هناك، والهوية، وثقل الجغرافيا، وملفات الإقليم المفتوحة على مصراعيها. سيكون الأردن حاضرًا لا كدولة صغيرة على الخريطة، بل كفكرة كبيرة في الضمير العربي: بلدٌ حمل أكثر مما يُحتمل، وبقي واقفًا. الأردنيون لا يذهبون إلى كرة القدم هربًا من الواقع؛ هم يذهبون إليها ليستعيدوا قدرتهم على الاحتمال. فهذا شعب عاش عقودًا وهو يحمل أوجاع غيره كما لو كانت أوجاعه، من فلسطين التي تسكن القلب لا الخبر، إلى أزمات الإقليم التي مرّت من هنا وخرجت، وبقي الأردن… واقفًا، هادئًا، متماسكًا. لذلك، حين يهتف الأردني، لا يهتف فقط للهدف، بل يهتف لأنه ما زال هنا، لأنه لم ينكسر، لأنه لم يفقد إنسانيته وسط هذا العالم القاسي الذي يبدو أحيانًا وكأنه ينسى قيمة الصمود الهادئ.
وفي هذه المباراة، هناك مفارقة تكاد تكون استعارة كاملة للمصير العربي المتشابك: مدرب المنتخب الأردني مغربي، جمال السلامي، القادم من جبال الأطلس، يقود نشامى جاءوا من سهول وبوادي الأردن. وهنا، لا يعود الأمر تفصيلاً رياضيًا، بل استعارة عربية نادرة عن الكفاءة حين تُمنح الثقة، والانتماء حين يتجاوز الجواز، والاحتراف حين يصبح شرفًا لا عقدًا. وفوق ذلك كله، يلتقي منتخبان لبلدين ملكيين مستقرين، مملكتان من نسبٍ شريفٍ واحد يعود إلى الإمام علي بن أبي طالب، كأن التاريخ – في لحظة رياضية خالصة – قرر أن يذكّرنا بأن الاستقرار في هذه المنطقة المضطربة لم يكن صدفة، بل هو نتاج عقد اجتماعي فريد، قوامه رابطة وجدانية بين القيادة والشعب، ليست علاقة خوف، بل شراكة في المصير والكرامة.
في الأردن، لا تُشجّع القيادة من المنصة فقط. هنا، وليّ العهد بين الجمهور، وهنا أمير يدق الطبل، وهنا علم يُرفع لا بتكليف بل بطرب. وتلك الصورة التي لا تُنسى للملك عبد الله الثاني، عام 1999، وهو يرفع يديه فرحًا مرتديًا قميص المنتخب، لم تكن لصنع مشهد، بل لأن اللحظة نفسها فرضت صدقها، ولأن الرياضة منذ بداية عهده كانت جزءًا من رؤيته للإنسان قبل الدولة. إنه دعمٌ يعترف بأن الفرح الجماعي ليس ترفًا، بل هو حاجة وطنية، هو الأكسجين الذي يتنفسه المجتمع ليستمر في حمله الذي تنوء بحمله العصبة أولي القوة!
وحين يُرفع العلم، وتصدح الحناجر بـ : "وعلا علا علم بلادي وعلا… علا وبالعلالي وعلا وعلا"، لا يكون الصوت مجرد أغنية، بل إعلان انتماء جماعي، طربٌ يشبه البكاء النظيف، وفرحٌ لا يحتاج إلى مبررات.
انظر إلى المدرجات، سترى مشجعين لم يأتوا ترفًا. أناسٌ اقترضوا ثمن التذكرة، حمّلوا بطاقات الفيزا ما لا تحتمل، سافروا لأنهم شعروا أن الغياب خيانة، وأن الوفاء أحيانًا دين يُسدَّد بالحب. هذه ليست رومانسية؛ هي نخوة أردنية صافية، وشهامة لا تتزعزع، ومروءة تعرف طريقها إلى القلب، ووفاءٌ لا يُفسَّر… بل يُعاش! هي أخلاق جماعية حين تتحول إلى وطن يمشي على قدمين، ورجولة هادئة تعرف متى تفرح، حيث يصبح التشجيع فعلاً من أفعال الكرامة والمقاومة الهادئة لليأس.

لهذا كله، فإن سؤال: ماذا لو عاد النشامى منتصرين؟ ليس عن كأس العرب! بل عن: ماذا لو عادوا حاملين معهم ذلك الشيء الخفيف… الذي يجعل الناس أقل قسوة على بعضهم، أكثر صبرًا، أقرب إلى الفكرة الأولى للأردن: بلدٌ صغير بالحسابات، كبير بالمعنى. ماذا لو عادوا، لا ليغيّروا الواقع المرير من حولنا، بل ليمنحونا، ولو لوقت، القدرة على النظر إليه بكرامة أعلى، وإيمان أعمق بأن الجمال ممكن حتى في قلب العاصفة؟

عندها فقط، لن يكون الفوز ذكرى عابرة ولا نشوة مؤقتة، بل علامة راسخة في الوجدان الأردني والعربي، تُستدعى كلما ضاق الأفق، واشتد الظلام. علامة يُقال عندها، بتواضع النشامى وثباتهم: هكذا ننتصر لأنفسنا..وهكذا سنبقى!

مواضيع قد تهمك