الأخبار

د. حمد الكساسبة : تمويل موازنة الحكومة العامة 2026: بين إدارة الدين وصناعة النمو

د. حمد الكساسبة : تمويل موازنة الحكومة العامة 2026: بين إدارة الدين وصناعة النمو
أخبارنا :  

تأتي موازنة الحكومة العامة لعام 2026 — وهي الموازنة التي تضمّ جانبين رئيسيين: الحكومة المركزية والوحدات الحكومية المستقلة بما يشكّل الصورة الكاملة للإنفاق والالتزامات العامة — في لحظة دقيقة يمرّ بها الاقتصاد الأردني. فمع تصاعد الضغوط التمويلية وتباطؤ التعافي الإقليمي، تبدو هذه الموازنة اختبارًا لقدرة الدولة على حماية استقرارها المالي من دون الإضرار بفرص النمو التي يحتاجها الاقتصاد.

وتُظهر تقديرات الإنفاق أن حجم موازنة الحكومة العامة يصل إلى نحو 15 مليار دينار، تتوزع بوضوح بين جانبيها الرئيسيين؛ حيث تستحوذ الحكومة المركزية على نحو 13.1 مليار دينار، بينما تبلغ نفقات الوحدات الحكومية المستقلة حوالي 1.9 مليار دينار. ويعكس هذا التوزيع حجم الالتزامات التشغيلية والخدمية التي تتحمّلها المؤسسات الحكومية المختلفة، كما يكشف محدودية المرونة المالية في زيادة الإنفاق الرأسمالي، نظرًا لارتباط الجزء الأكبر من هذه النفقات برواتب وخدمات أساسية ودعم اجتماعي لا يمكن تقليصه بسهولة.

وترتفع الحاجة التمويلية للحكومة العامة — بمكوّنيها المركزي والمستقل — إلى نحو 13 مليار دينار، أي ما يعادل 86٪ من إجمالي النفقات. ويعكس هذا المستوى الاستثنائي من الاعتماد على التمويل أن الجزء الأكبر من موارد الدولة يُستخدم لتغطية التزامات قائمة وليس لتوسيع القاعدة الإنتاجية أو تحسين جودة الخدمات العامة، وهو ما يحدّ من قدرة الموازنة على لعب دور تنموي أكثر تأثيرًا في مرحلة تحتاج دفعًا أقوى للنمو.

وتتجه الحصة الأكبر من الموارد التمويلية إلى خدمة الدين العام، وسداد الأقساط، وإعادة الهيكلة، إضافة إلى تغطية العجز المالي. ورغم أن هذا النهج يرسّخ الثقة بالالتزامات السيادية ويحافظ على استقرار التصنيف الائتماني، فإنه يعكس في الوقت نفسه نمطًا ماليًا دفاعيًا يهدف إلى احتواء الضغوط القائمة أكثر من تحفيز النمو، ما يحدّ من قدرة الموازنة على توظيف التمويل في مشاريع إنتاجية قادرة على تضييق فجوة الإنتاجية ورفع وتيرة النشاط الاقتصادي.

كما تعتمد الحكومة العامة بدرجة كبيرة على الاقتراض المحلي لتأمين الجزء الأكبر من احتياجاتها التمويلية، سواء من خلال الجهاز المصرفي أو عبر صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي. ويمنح هذا النمط من التمويل الموازنة قدرًا من الاستقرار ويقلل الانكشاف على تقلبات التمويل الخارجي، إلا أنه يثير في المقابل تساؤلات حول أثره على توافر الائتمان للقطاع الخاص، ولا سيما الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تحتاج تمويلًا تنافسيًا لتوسيع أعمالها ورفع قدرتها الإنتاجية.

ورغم التحديات التي تواجه الموازنة، فإنها تستند إلى مجموعة من عناصر القوة التي تمنحها قدرًا مهمًا من الصلابة والاستقرار. فانتظام خدمة الدين العام وحرص الحكومة على عدم تراكم المتأخرات يعززان الثقة في الملاءة المالية للدولة. كما يشكّل استقرار الجهاز المصرفي — من حيث كفاية رأس المال والسيولة المرتفعة — شبكة أمان مالية تتيح للحكومة إدارة احتياجاتها التمويلية دون اضطرابات. وإلى جانب ذلك، يوفر صندوق استثمار أموال الضمان الاجتماعي مصدرًا طويل الأجل للسيولة، ما يخفف الضغط على أسواق الدين ويحد من الحاجة إلى الاعتماد المفرط على التمويل الخارجي، خصوصًا في فترات التقلبات الإقليمية والدولية.

لكن المرحلة المقبلة تحتاج تحولًا في النهج؛ فالتركيز لم يعد على خفض الإنفاق بقدر ما أصبح على رفع جودة الإنفاق وتعظيم العائد الاقتصادي من كل دينار يُنفق. فإعادة توجيه الموارد نحو مشاريع إنتاجية عالية القيمة أصبح ضرورة لتعزيز النمو، خصوصًا في ظل محدودية الحيّز المالي. وتتضاعف أهمية هذا التحول عندما يُربط بمحركات النمو في رؤية التحديث الاقتصادي 2033، بحيث تصبح الموازنة أداة تنفيذية للرؤية لا مجرد وثيقة مالية، عبر توجيه الموارد نحو القطاعات القادرة على خلق القيمة وفرص العمل مثل التكنولوجيا والصناعة والسياحة والخدمات المتقدمة.

كما يتطلب المشهد المالي اعتماد نهج أكثر وضوحًا لقياس إنتاجية الدين، بحيث يكون الاقتراض وسيلة لتوسيع النشاط الاقتصادي لا مجرد أداة لسد الفجوات. فعندما يرتبط التمويل بمشاريع ذات أثر إنتاجي مباشر — في البنية التحتية وسلاسل القيمة الصناعية والخدمات الرقمية — يتحول الدين إلى رافعة للنمو بدلًا من كونه عبئًا مؤجلًا. ويُعد هذا التحول جوهريًا في اقتصاد محدود الموارد يبحث عن مصادر نمو جديدة وأكثر استدامة.

وفي المحصلة، تكشف موازنة 2026 عن قدرة الدولة على إدارة استقرارها المالي، لكنها تطرح في الوقت ذاته سؤالًا جوهريًا حول مستقبل دور الموازنة: هل تبقى وسيلة لضبط الالتزامات، أم تتحول إلى محرك للنمو الاقتصادي؟ إن الانضباط المالي ضرورة لا يمكن التفريط بها، لكنه وحده لا يكفي لرفع الإنتاجية أو توليد فرص العمل. فالقوة الحقيقية للموازنة تكمن في قدرتها على استثمار الدين في المشاريع التي تصنع نموًا حقيقيًا وتمنح الاقتصاد الأردني موقعًا أكثر متانة وقدرة على مواجهة التحديات بثقة واستدامة.

مواضيع قد تهمك