د. خالد الشقران : الشرق الأوسط بين صراع الهيمنة وفرص السلام
يقف الشرق الأوسط اليوم عند مفترق تاريخي حاد، تتجاذبه نزعتان متناقضتان: نزعة الهيمنة التي تفرضها القوة العسكرية المفرطة وتغذيها حسابات التفوق، ونزعة السلام التي تبحث عنها شعوب أنهكتها الحروب وتطلعت طويلا إلى الأمن والازدهار، وفي قلب هذا الاشتباك المفتوح، تبرز السياسات الإسرائيلية بوصفها عاملا مركزيا يعمق الصراع ويزرع الفوضى ويقوض أي أفق حقيقي لتسوية عادلة وشاملة تمهد لفرص أمن واستقرار وازدهار يمكن أن تنعم بها دول المنطقة وشعوبها.
فعلى مدار عقود اعتمدت إسرائيل نهجا يقوم على فرض الوقائع بالقوة، سواء عبر الاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية، أو من خلال التوسع الاستيطاني، أو باستخدام التفوق العسكري كأداة لإعادة رسم موازين القوة في الإقليم عبر الاعتداءات المستمرة والممنهجة على دول وشعوب المنطقة وتدمير مقدراتها، وهو النهج الذي أثبتت مجريات الواقع أنه لم ولن ينتج استقرارا، بل راكم وما زال أزمات متلاحقة، ورسخ شعورا عميقا بالظلم، وحول المنطقة إلى ساحة توتر دائم قابلة للاشتعال في أي لحظة.
محاولات الهيمنة الإسرائيلية التي لم تتوقف عند قضم الجغرافيا الفلسطينية لتمتد إلى السعي لفرض معادلات ردع قسرية على دول الجوار، والتدخل المباشر أو غير المباشر في شؤون دول أخرى وفي مسارات الصراع الإقليمي، أدت بدلا من بناء منظومة أمن جماعي قائمة على التفاهم والاحترام المتبادل للسيادة، إلى تكريس منطق القوة بوصفه المرجعية الوحيدة، وهو منطق يختزل الأمن في تفوق عسكري آني ووهمي لا يمكن معه تحقيق أي نوع أو صيغة من صيغ التفاهم والتعايش المفضي إلى الاستقرار وخاصة إذا استمرت حكومة الاحتلال في سلوكها العدواني وإصرارها ومن يساندها من المجتمع الدولي على تجاهل جذور الصراع السياسية والحقوقية وفي مقدمتها حق الشعب الفلسطيني في الحصول على كامل حقوقه المشروعة وفقا لقرارات الشرعية الدولية.
أثر هذا المسار على فرص السلام بالغ الخطورة، حيث تؤدي كل جولة صراع وعنف جديدة إلى قتل ما تبقى من ثقة، وتدفع المجتمعات نحو مزيد من التطرف والانكفاء، وتضعف القوى التي تؤمن بالتسوية والحلول السياسية، خاصة وأن السلام لا يولد تحت فوهات البنادق، ولا ينمو في ظل حصار وتجويع وانتهاك يومي للكرامة الإنسانية، فحين تغيب العدالة يتحول الاستقرار إلى وهم مؤجل، وتصبح التنمية رهينة الخوف وعدم اليقين.
كذلك تترك محاولات فرض الهيمنة بالقوة كلفا اقتصادية واجتماعية هائلة على المنطقة بأكملها، حيث تتسابق الدول لإنفاق مواردها على التسلح بدلا من التعليم والصحة والبنى التحتية، وتهرب الاستثمارات من بيئة غير مستقرة، ويفقد الشباب الثقة بالمستقبل، ما يفتح الباب أمام الهجرة أو الانخراط في دوائر تطرف وعنف جديدة، فيدفع الإقليم ثمنا مضاعفا نتيجة لغياب السلام وضياع فرص الاستقرار والازدهار.
ورغم ما يبدو نتيجة للسلوك العدواني الإسرائيلي من سودواية لمستقبل المنطقة، ما تزال في المقابل فرص السلام قائمة، لكنها تحتاج إلى مقاربة مختلفة جذريا، تنطلق من سلام يقوم على الاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وعلى إنهاء الاحتلال، وعلى احترام القانون الدولي، وبناء شراكات إقليمية قائمة على المصالح المتبادلة والتنمية المشتركة، خاصة وأن التجارب العالمية أثبتت مرارا وتكرارا أن الأمن الحقيقي يصنعه السلام العادل، وأن القوة المجردة مهما بلغت شدتها وجبروتها قد تفرض بعض التسكين المؤقت لكنها ستعجز بالتأكيد عن فرض أو بناء استقرار دائم.
في المحصلة، المسؤولية هنا حتما جماعية، فعلى المجتمع الدولي بداية أن يخرج من دائرة الإدانات اللفظية إلى أفعال سياسية واقتصادية ضاغطة، وعلى القوى الإقليمية أن ترفع صوتها دفاعا عن منطق التسوية لا منطق المغالبة، وعلى النخب الفكرية والإعلامية أن تواصل كشف كلفة الهيمنة وخطرها على مستقبل الجميع، فقد آن الأوان لينظر المجتمع الدولي وكل القوى الفاعلة في العالم إلى الشرق الأوسط على أنه منطقة تستحق بعد كل هذه الحروب وما جلبته من ويلات ودمار للبشر والحجر والشجر مسارا آخر يضع الإنسان في قلب المعادلة، ويحول السلام من شعار فضفاض يستخدم كمسكن آلام إلى مشروع قابل للحياة، وعليه فإن على الجميع أن يقفوا ويشاركوا بصدق في لحظة الاختيار.. فإما الاستمرار في دوامة القوة والصراع وقتل آمال وتطلعات الشعوب ومستقبلها أو الشروع بجرأة في بناء سلام يفتح الباب لأمن حقيقي وازدهار طال انتظاره. ــ الراي