د. احمد الخصاونة : الأردن في قلب آسيا: جولة ملكية تعيد رسم الخريطة الاقتصادية وتفتح بوابات المستقبل
تأتي الجولة الآسيوية التي يقوم بها جلالة الملك عبدالله الثاني لتشكّل
محطة مفصلية في مسار إعادة التموضع الاقتصادي للأردن، وركيزة جديدة في بناء
شبكة علاقات دولية متقدمة مع القوى الاقتصادية الصاعدة. فالزيارات الرسمية
اليابان، فيتنام، سنغافورة، إندونيسيا، و باكستان ليست مجرد تحرك
بروتوكولي، بل خطوة مدروسة تُعيد صياغة اتجاهات الاقتصاد الأردني، وتفتح
أمامه أبوابًا واسعة نحو أسواقٍ تضم أكثر من 750 مليون نسمة، وتتمتع بنهضة
صناعية وتقنية وسيبرانية تعد من الأكثر تسارعًا في العالم.
هذه
الجولة تأتي في توقيت عالمي بالغ الحساسية؛ إذ يشهد الاقتصاد الدولي حالة
إعادة توزيع للأدوار، وتحوّلاً في مراكز الثقل، وتغيرًا جذريًا في خرائط
التصنيع وسلاسل التوريد. وتراجع الأنماط القديمة من العولمة أوجد مساحات
واسعة للدول القادرة على التحرك بمرونة، وصياغة شراكات جديدة تحقق مصالحها
الوطنية. وفي هذا السياق، يبرز الأردن كدولة عربية تمتلك موقعًا جيوسياسيًا
استثنائيًا، يربط شرق المتوسط بالشرق الأقصى، ويشكّل نقطة التقاء طبيعية
للتجارة والطاقة والاتصالات الرقمية.
إن إدراك جلالة الملك لطبيعة
المرحلة ومتطلباتها جعل من الانفتاح على آسيا خيارًا استراتيجيًا، وليس
مجرد توجه دبلوماسي عابر. فهذه الدول خاصة باكستان وإندونيسيا تمثل قوة
بشرية واستهلاكية هائلة، وتملك قطاعات صناعية قادرة على تشكيل تكامل نوعي
مع الصناعات الأردنية. أما سنغافورة، فهي نموذج عالمي في الإدارة الذكية،
والتخطيط الاقتصادي، والحوكمة الحديثة، ما يجعل التعاون معها فرصة ثمينة
لتطوير المنظومة الاقتصادية الأردنية وتحسين تنافسيتها.
ان أهمية الجولة
الملكية لا تكمن في توقيع الاتفاقيات فقط، بل في رسالتها السياسية بأن
الأردن يعيد رسم مساره الاقتصادي وفق مقاربة جديدة تعتمد تنويع الأسواق
وتوسيع الرقعة الاستثمارية. حيث تعتبر الجولة بمثابة إعادة تموضع ذكي يفتح
للصناعات الأردنية آفاقًا غير مسبوقة في الأسواق الآسيوية، خصوصًا لقطاعي
الأدوية والكيماويات والصناعات الغذائية التي تمتاز بتنافسية عالية وجودة
عالمية وإزالة الحواجز الفنية وتسهيل الإجراءات التجارية سيسمح للقطاع
الخاص الأردني بالتحرك بثقة في أسواق ضخمة طال انتظار دخولها.
أن مشاركة
وفد اقتصادي رفيع في الجولة تؤكد جدية الدولة في تجاوز العلاقات
التقليدية، والانتقال نحو بناء تحالفات اقتصادية مع دول تشهد نموًا
متسارعًا. وتأسيس صناديق استثمار مشتركة، إضافة إلى تسهيل حركة البضائع
وتخفيض القيود غير الجمركية، سيُحدث نقلة نوعية في قدرة الأردن على استقطاب
استثمارات جديدة وعلى مضاعفة حضور منتجاته في آسيا.
ولم تقف الجولة
الملكية عند حدود التجارة والصناعة، ولا توقّفت عند خطوط التبادل الاقتصادي
التقليدي؛ بل مضت إلى ما هو أعمق، إلى روح العصر نفسه إلى الفضاء الرقمي
الذي تُدار فيه ثروات الأمم، وتُصنع فيه القوة، وتُحسم فيه معارك
المستقبل. فالأمن السيبراني لم يعد حارسًا للشبكات فحسب، بل أصبح درع
السيادة الجديدة، وخط الدفاع الأول عن اقتصاد الدول، وذاكرتها الرقمية،
ومؤسساتها، ومكانتها في العالم. والاقتصاد الرقمي لم يعد قطاعًا من بين
القطاعات؛ بل هو اليوم الوعاء الذي تتدفق فيه حركة المال، والصناعة،
والخدمات، والتعليم، والطاقة، والاتصال. ومن هنا جاء التوجّه الملكي نحو
بناء شراكات عميقة مع دول اقتحمت هذا القرن بثقة، وكتبت قصص نجاحها في
دفاتر المستقبل قبل أن يقرأها العالم: اليابان، كوريا الجنوبية، سنغافورة،
والصين. إنها دول صنعت قوتها من العلم، وواجهت تحدياتها بالتقنية، وبنت
منظومات رقمية لا تهتزّ أمام التهديدات، ولا تتراجع أمام العواصف.
التعاون
مع هذه الدول لا يعني مجرد توقيع اتفاقيات، بل يعني فتح النوافذ على خبرات
تُعد من الأرقى عالميًا في الذكاء الاصطناعي، وفي الحوسبة السحابية، وفي
إدارة البيانات، وفي صناعة الدفاعات الرقمية التي تبصر الهجمات قبل أن تقع،
وتصنع استجابة لا ترتجف.
يعني أن يمتلك الأردن القدرة على بناء بنية
رقمية صلبة، تتكامل فيها مؤسساته، وتتوحّد فيها قواعد بياناته، وتنهض فيها
خدماته الحكومية على أكتاف التكنولوجيا، لا على الورق والطوابير. يعني أن
تُدار الدولة بأدوات القرن الحادي والعشرين، لا بإيقاع البيروقراطية
القديمة. يعني أن يصبح الأردن قادرًا على حماية اقتصاده، ومصارفه، وقطاعاته
الحيوية، ووجوده الإلكتروني من أي تهديد، مهما كان نوعه أو مصدره أو شكله.
ويعني أيضًا أن ينفتح أمام الشباب الأردني أفق جديد، تُصنع فيه فرص العمل
من شرارة الإبداع، لا من روتين الوظيفة، وأن تتحول الجامعات إلى مصانع
للعقول، لا قاعاتٍ لحفظ المعلومة.
مع هذه الدول، لا يستورد الأردن
تقنيةً فقط؛ بل يستورد فلسفة النجاح، وطريقة التفكير، وأسلوب إدارة
المستقبل، ومنهجًا في تحويل التحديات إلى قوة. إنها شراكة مع مدارس صنعت
النهوض من الإرادة، لا من المساحة؛ من العقول، لا من الموارد؛ من الانضباط،
لا من الصدفة. هكذا يفتح الأردن، بقيادة جلالة الملك، بابًا واسعًا نحو
عصر جديد، يُعاد فيه ترتيب أولويات الدولة، ويتحوّل فيه الاقتصاد الرقمي
إلى محرّك للنمو، والأمن السيبراني إلى صمّام للأمان، والشراكات الآسيوية
إلى جسور عبور نحو موقع أكثر حضورًا وتأثيرًا في خريطة العالم التقنية
والاقتصادية.
وفي قطاع الطاقة والتعدين، كانت الجولة الملكية جاءت لتبعث
رسالة واضحة مفادها أن الأردن لم يعد مجرد ساحة جاذبة للاستثمارات
التقليدية، بل شريك فاعل في مشاريع الطاقة النظيفة والتعدين عالي القيمة.
موقع المملكة المتوسط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا يمنحها أفضلية جغرافية
نادرة لاستقطاب الشركات الكبرى التي تبحث عن منصات مستقرة لدخول أسواق
المنطقة، للتوجه نحو مشاريع الطاقة المتجددة والصناعات التعدينية ذات
القيمة المضافة يعزز مكانة الأردن كمركز إقليمي للطاقة النظيفة.
وفي
محطة سنغافورة تحديدًا، يتعزز البعد الاستراتيجي للجولة. فالعلاقة
الأردنية-السنغافورية الممتدة لأكثر من أربعة عقود يمكن أن تنتقل اليوم إلى
مستوى أكثر عمقًا وتأثيرًا. حيث أن مذكرة التفاهم الأخيرة بين البلدين في
مجالات الاتصالات والاقتصاد الرقمي تمثل خطوة جوهرية لبناء شراكات تقنية
متقدمة، إضافة إلى فرص التعاون في السياحة والمياه والطاقة من حيث أن
البيئة التشريعية الأردنية المستقرة والحديثة تجعل المملكة وجهة جذابة
لشركات التكنولوجيا السنغافورية الرائدة.
في المحصلة، ليست الجولة
الآسيوية حدثًا عابرًا أو نشاطًا دبلوماسيًا اعتياديًا يُضاف إلى سجل
الزيارات الرسمية؛ بل هي عملية إعادة تموضع شاملة، ورسم دقيق لملامح الدور
الاقتصادي الجديد الذي يسعى الأردن لاعتلائه في الإقليم والعالم. إنها ليست
حركة في الجغرافيا، بل في الفكر الاقتصادي نفسه، وفي طريقة قراءة التحولات
الدولية التي تعيد رسم مراكز القوة، وتعيد ترتيب اللاعبين على خريطة
الاقتصاد العالمي.
هذه الجولة تُعلن بوضوح أن الأردن لا ينتظر التحولات
كي تصله، بل يذهب إليها. وأنه لا يكتفي بأسواقه التقليدية، بل يطرق أبوابًا
جديدة تمتد من باكستان إلى إندونيسيا، ومن الصين إلى سنغافورة، حيث تقع
اليوم أكثر المراكز الاقتصادية ديناميكية ونموًا في العالم.
إنها رسالة
بأن المملكة تتحرك وفق رؤية واعية تُدرك أن المستقبل يُصنع في الشرق، وأن
الاقتصادات الصاعدة في آسيا تشكل رافعة هائلة لمن يريد أن يكون جزءًا من
شبكة الاقتصاد الجديد.
جلالة الملك، بهذه الجولة، يفتح للأردن مسارات
جديدة لتوسيع الأسواق التصديرية، وبناء تحالفات استثمارية، وخلق فضاءات
اقتصادية واسعة أمام القطاع الخاص الأردني، الذي يحتاج إلى أسواق كبيرة،
وإلى شراكات تقوم على التكامل لا التنافس، وعلى المنفعة المتبادلة لا
العلاقات البروتوكولية.
إنها خطوة تؤكد أن الأردن يسعى إلى تنويع مصادر
قوته، وإلى جذب الاستثمارات النوعية التي لا تتوقف عند إنشاء مصنع أو فتح
مكتب، بل تمتد إلى نقل التكنولوجيا، وبناء الخبرات، وخلق فرص عمل عالية
القيمة، وربط الأردن بمنظومات إنتاج عالمية لا تتأثر بالتقلبات الإقليمية
الضيقة. وبهذه الرؤية، يدخل الأردن مرحلة جديدة قائمة على الانفتاح الذكي
لا الانفتاح العشوائي مرحلة تستثمر فيها المملكة عناصر قوتها الجيوسياسية،
ومرونتها الاقتصادية، وموقعها الذي يجعلها نقطة تلاقٍ بين آسيا وأوروبا
وإفريقيا.
مرحلة يتقدم فيها الأردن ليأخذ مكانه الطبيعي كـ لاعب محوري
في الاقتصاد الإقليمي، وشريك موثوق للدول التي تصنع مستقبل التكنولوجيا،
والصناعة، والطاقة، والاقتصاد الرقمي. إنها مرحلة يخرج فيها الأردن من
دائرة الانتظار إلى دائرة الفعل، ومن حدود الجغرافيا إلى آفاق الاقتصاد
العالمي، ومن نموذج الدولة الصغيرة إلى نموذج الدولة ذات الدور الوازن،
التي تبني قوتها من رؤية قيادتها، ومن انفتاحها على العالم، ومن قدرتها على
تحويل الفرص إلى إنجازات.
وبهذا، فإن الجولة الآسيوية ليست خاتمة، بل
بداية لمرحلة اقتصادية أكثر نضجًا وجرأة وثقة، تضع الأردن على خط المستقبل
بثبات، وتعيد بناء موقعه في العالم على أسس جديدة، أكثر واقعية، وأكثر
طموحًا، وأكثر اتصالًا بروح العصر. إنها نقطة انطلاق نحو رؤية اقتصادية
تُعيد تعريف دور الدولة، وتوسّع أفقها، وتفتح أمامها آفاقًا جديدة تتجاوز
حدود المنطقة إلى فضاءات القوة الاقتصادية الصاعدة في الشرق.
والكرة
الآن في ملعب الحكومة، ومؤسسات المجتمع المدني، والقطاع الخاص، والجامعات؛
فالتمهيد الذي رسمه جلالة الملك ليس سوى خارطة طريق متقدمة تحتاج إلى من
يحوّلها إلى برامج عملية، وخطط قابلة للتنفيذ، ومشاريع تلامس حياة الناس
واقتصاد الدولة على حدّ سواء. على الحكومة أن تبادر بسرعة لالتقاط الفرص
التي فُتحت، وتحويل التفاهمات إلى اتفاقيات فعلية، وتسهيل الإجراءات أمام
المستثمرين الذين سيفتحون أبوابهم نحو الأردن.
وعلى القطاع الخاص أن
يتحرك بثقة، وأن يخرج من دائرة الانتظار إلى ميدان الفعل، فهذه اللحظة
التاريخية صُممت أصلاً لتمكينه، ولتوسيع أسواقه، ولإطلاق إمكاناته الكامنة.
أما
الجامعات، فهي مطالبة بأن تلتقط الإشارات بذكاء، وأن تعيد توجيه برامجها
وتخصصاتها نحو التكنولوجيا والابتكار والاقتصاد الرقمي، وأن تتحول إلى
مراكز بحث وشراكات عابرة للحدود، توازي ما يصنعه العالم في عواصم التقدم.
ومؤسسات
المجتمع المدني مدعوة بدورها إلى أن تكون جسرًا بين الأفكار والميدان، وأن
تشارك في بناء الوعي الجديد، وتهيئة الأجيال لمتطلبات الاقتصاد العالمي،
ومساندة الثقافة الوطنية في استيعاب هذا الانفتاح وترجمته إلى تطور إيجابي.
إن
ما قام به جلالة الملك ليس مجرد زيارة؛ بل تأسيس لمرحلة وطنية جديدة تنتظر
من مؤسسات الدولة والمجتمع أن تتحرك بإيقاع المرحلة، وأن تتعامل مع هذه
التحولات بجدية واستمرارية، حتى يكتمل البناء، ويُترجم هذا الحراك الملكي
إلى نهضة اقتصادية يشعر بها كل مواطن على أرض الأردن.