الأخبار

د. ناديا محمد نصير : في الرابع عشر من تشرين الثاني يولد الحسين كل عام

د. ناديا محمد نصير : في الرابع عشر من تشرين الثاني  يولد الحسين كل عام
أخبارنا :  

هناك أيام لا تمرُّ على الروزنامة بل تمرُّ على القلب.
أيامٌ إذا جاءت، شعرتَ أن الوطن يستقيم قليلًا، وأن الذاكرة تنتعش كجنديٍّ قديم يعرف طريقه دون بوصلة. وفي كل مرة يحلّ الرابع عشر من تشرين الثاني، يعود الحسين بن طلال ـ رحمه الله ـ لا من الماضي بل من المكان الذي لم يغادره يومًا: وجدان الأردنيين. يعود كضوءٍ لا يُطفأ، كيدٍ تربّت على كتف الوطن، وكأبٍ ما زال صوته يعلّم أبناءه معنى الثبات في زمنٍ يختبر صبر الشعوب.
في مثل هذا اليوم من عام 1935، لم يولد طفلٌ في بيتٍ هاشمي فقط بل وُلدت معه رؤية وطنٍ كامل، وُلدت مدرسة قيادة تعرف أن الإنسان هو الثروة الأغلى، وأن الوطن لا يُبنى بالصوت العالي، بل بالصبر، والعمل، واليد التي تحتضن شعبها قبل أن تقوده. كان الحسين مدرسةً فريدة؛ مدرسة تُعلّم الأجيال أن القيادة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون سلطة، وأن هيبة الدولة تُصنع بالعدل لا بالخوف، وبالحب لا بالقهر.
كان الحسين ـ رحمه الله ـ يرى في الأردنيين أبناءه الحقيقيين، ولذلك أحبّه الناس كما لم يحبّوا قائدًا من قبل. رأوا فيه القرب، والصدق، والتواضع النبيل، والقدرة على الوقوف في وجه العواصف دون أن تنكسر هيبته أو تضعف إنسانيته. كان يعرف جوع الفقير قبل أن يُقال له، ويشعر بتعب الجندي قبل أن يسمعه، ويحتوي خوف الشعب قبل أن يُعبّر عنه أحد. ولذلك، بقي وجهه في ذاكرة الأردنيين كيدٍ ممدودة، وكفٍّ تطمئن، وقلبٍ لا يشيخ.
ولم يكن ميلاده مجرد ذكرى، بل كان بداية نهجٍ سياسيٍّ وإنسانيٍّ رسّخ فكرة أن الأردن ليس مجرد دولة في منطقة مضطربة، بل مشروعٌ طويل المدى، ينهض على الثقة، وعلى المؤسسات، وعلى الإيمان بأن الشعب قادر على استيعاب المحن وتجاوزها. وفي عهده، ترسّخت صورة الأردن باعتباره وطنًا يعرف كيف يقف في وجه الرياح دون أن يفقد ظله أو ملامحه.
ومع مرور السنوات، بقي الأردنيون يقرأون في سيرته معنى الصبر، ومعنى الدولة التي تُبنى بعرق رجالها وصدق قياداتها. كانوا يرون فيه الأب الذي لا يتعب، والقائد الذي لا يساوم، والرجل الذي لا يتخلى عن شعبه مهما اشتدّت الظروف. فكان الحسين بالنسبة لهم أكثر من ملك كان بوصلتهم الهادئة حين يضيع الاتجاه.
وعندما جاء يوم رحيله في السابع من شباط عام 1999، جثا الوطن على ركبتيه للحظة، كأن جبلاً سقط من على كتفيه. لم تبكِ عمّان وحدها، ولا المدن وحدها؛ بكت القلوب التي عرفت معنى الأمان بوجوده، وخشيت لحظة أن تستيقظ على غياب صوته الذي اعتادت عليه. كان وداعه مشهدًا جمع الوطن كله في جنازة واحدة، جنازة رجلٍ لا تُودّع حياته بل تُودَّع هيبته، حنانه، وملامحه التي رافقت كل تفاصيل دولتنا الحديثة.
ورغم الفقد الكبير، لم ينطفئ الضوء. حمل جلالة الملك عبدالله الثاني الأمانة بثباتٍ يُشبه ثبات أبيه، وبحكمةٍ لا تقلّ صلابة عن المدرسة التي نشأ فيها. واصل بناء الدولة، وعزّز مكانة الأردن السياسية، وحمى حدوده، وأعاد رسم حضوره الدولي بقوة ووضوح. كان يحمل إرث الحسين في خطواته، وفي هدوئه، وفي معرفته العميقة بأن الأردن رسالة قبل أن يكون دولة.
واليوم، نرى امتداد الحسين واضحًا في شخصية جلالة الملك عبدالله الثاني، وفي ملامح سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، الذي يحمل الاسم والإرث والمسؤولية بروح الشباب ورؤية المستقبل. يكمل الطريق دون أن يبتعد عن جذوره، ويمضي على ذات النهج الذي آمن به الأردنيون منذ عقود: نهجٌ هاشميٌّ لا يساوم على كرامة الوطن، ولا يتراجع أمام التحديات، ولا يعرف سوى البناء والاستمرار.
إن ميلاد الحسين ليس ذكرى في كتاب، بل ذاكرة تعيش في شعب. ففي كل عام، حين يأتي الرابع عشر من تشرين الثاني، نشعر أن الوطن يستعيد شيئًا من صلابته، وأن الأردن يقف قليلًا أمام المرآة ليقول لنفسه: هذا نحن أبناء الحسين، وأحفاد النهج الذي لا يشيخ.
وفي كل عام، يولد الحسين من جديد
في قلوب الأردنيين، في ثبات دولتهم، وفي الطريق الطويل الذي ما زلنا نكمله بإيمانٍ لا يضعف، وبمحبةٍ لا تتغير، وبوطنٍ يستحق أن يبقى كما أراده: قويًا، عزيزًا، مرفوع الرأس.

مواضيع قد تهمك