د. احمد الخصاونة : جلالة الملك في البرلمان الأوروبي: صوت الحق في زمن الصمت
في زمنٍ يُخيّم عليه الضباب الأخلاقي، وتتراجع فيه المبادئ أمام سطوة المصالح الباردة، ويغدو الإنسان فيه مجرّد رقمٍ في نشرات الأخبار، وأداةً في معادلات السياسة القاسية، أطلّ جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين، حفظه الله ورعاه، من على منبر البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورغ، أطلّ لا كقائد دولة فحسب، بل كضميرٍ حيّ، يُجسّد نُبل الموقف، وعمق الرؤية، وعبق التاريخ الأردني العريق في الدفاع عن الحق والعدالة.
لقد جاءت كلمة جلالته بمثابة وقفة ضمير في عالمٍ أنهكته الازدواجية، واستنزفته الحسابات الضيقة، فكان صوته صريحًا في زمن المُواربة، حازمًا في لحظة تردد، عادلًا في وقت ساد فيه الظلم، ومُلهمًا وسط ضجيجٍ عالمي تاهت فيه البوصلة الأخلاقية.
إنّها ليست المرة الأولى التي يُعبّر فيها جلالة الملك عن هموم الشعوب، وآمال المظلومين، ولكنها كانت لحظة فارقة، اختار فيها أن يُخاطب ضمير العالم من قلب أوروبا، ليدقّ جرس الإنذار، ويُذكّر الجميع بأنّ القيم ليست رفاهية، وأنّ العدالة ليست خيارًا انتقائيًا، بل واجبٌ إنساني لا يقبل التأجيل.
لقد جاء خطاب جلالته في لحظة فارقة من تاريخ البشرية، وفي وقتٍ عصيب تعاني فيه منظومة القانون الدولي من ارتباك خطير، وتتصدّع فيه المعايير الأخلاقية التي قامت عليها الحضارة الحديثة، ليُعيد التذكير بأن الصمت على المظالم هو شراكة في ارتكابها، وأن الحياد أمام الجرائم الكبرى هو انحياز ضد الضحايا، لا سيما إذا كان هؤلاء الضحايا شعبًا بأكمله يُسحق تحت نير الاحتلال والعدوان، كما هو حال الشعب الفلسطيني.
في خطابه التاريخي، لم يكن جلالة الملك يتحدث بلغة الإنشاء السياسي، بل بلغة الضمير الحيّ والرسالة الصادقة، مخاطبًا الأوروبيين من عمق تجربتهم الإنسانية، مُستحضِرًا اللحظات المظلمة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، حين اختارت أوروبا أن تنقذ نفسها من براثن الخراب عبر بناء سلام مستند إلى القانون، والتعاون، والكرامة الإنسانية. ومن هذا الاستدعاء التاريخي العميق، انطلقت رسالة جلالته لتقول إن ما يحدث اليوم في غزة ليس مجرد صراع، بل هو نكبة إنسانية ووصمة في جبين العالم، وإن التقاعس عن وقف هذا النزيف هو تفريط بالقيم التي قامت عليها الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي الإنساني.
لقد أكد جلالته، بثباتٍ ووضوح، أن استمرار العدوان على قطاع غزة، وتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة ذات السيادة على حدود الرابع من حزيران لعام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لن يؤدي إلا إلى مزيد من التطرّف، وزيادة زعزعة الاستقرار في المنطقة والعالم. كما شدد على أن السلام لا يُبنى بالقوة وحدها، بل يقوم على العدل، وتُرسّخ جذوره بالتفاهم والاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق.
واللافت أن الخطاب لم يكن محل إعجاب فحسب، بل كان صدمة إيجابية داخل البرلمان الأوروبي، حيث قُوطع بالتصفيق الحار سبع مرات، في مشهدٍ نادر الحدوث في مثل هذه المحافل، دالّ على عمق التأثير، وصدق الموقف، وبلاغة الرسالة. وقد بدا واضحًا أن جلالة الملك لا يُخاطب جمهورًا سياسيًا فحسب، بل يُناشد الضمير الإنساني العالمي، ويوقظ إحساس المسؤولية التاريخية تجاه معاناة شعب محاصر، وأمة تتجرّع الظلم منذ أكثر من سبعة عقود.
إن موقف جلالة الملك من القضية الفلسطينية لم يكن يومًا موقفًا عابرًا أو ظرفيًا، بل هو موقف مبدئي راسخ تجذّر في الوجدان الهاشمي منذ الثورة العربية الكبرى، وترسّخ في ضمير الدولة الأردنية منذ تأسيسها، وامتدّ عبر عقود من النضال السياسي والدبلوماسي. وهو موقفٌ ليس فقط باسم الأردن، بل باسم العدالة، وباسم الإنسان، وباسم كل الأحرار الذين ما زالوا يؤمنون أن للحق مكانًا، وللمظلوم نصيرًا، وللصوت الحر قوة.
ونحن، في الأردن، شعبًا ومؤسسات، نقف خلف جلالة الملك وقفة الثابتين، نعتز برؤيته، ونفخر بشجاعته، وندعم جهوده المتواصلة في الدفاع عن القيم والمبادئ. وندعو، من هذا المقام، إلى تفعيل أدوات الدبلوماسية البرلمانية والشعبية على الصعيدين العربي والدولي، لترسيخ الرسالة الأردنية النبيلة، والعمل على تشكيل رأي عام عالمي ضاغط لإنهاء الاحتلال، ووقف آلة الدمار، وإحياء مسار السلام القائم على الحق لا على التفاوض المفرغ من مضمونه.
ختامًا، لم يكن خطاب جلالة الملك في البرلمان الأوروبي مجرد كلمة سياسية تُقال في مناسبة دولية عابرة، بل كان بمثابة وثيقة تاريخية ناطقة بالحق، تُضاف إلى سجلّ الأردن المشرف والمضيء في نصرة القضايا العادلة والدفاع عن المبادئ الإنسانية السامية. لقد ارتقى الخطاب فوق حدود الدبلوماسية التقليدية، ليحمل رسالة أمة بأسرها، نابضة بالكرامة، مشبعة بالألم، ومشرعة بالأمل.
تحدّث جلالته بلغة العقلاء، وبلسان الشعوب المقهورة، مُجسّدًا الضمير العربي الحيّ الذي لا يرضى بالظلم، ولا يصمت أمام الجور، ولا يتخلى عن مسؤوليته الأخلاقية والإنسانية في أحلك الظروف. لقد قرع جلالته جدران الصمت الدولي بقوة الحكمة والعدل، مُذكّرًا العالم بأنّ الصمت عن المعاناة ليس حيادًا، بل تواطؤ مع الألم، وأنّ العدالة لا تقبل التأجيل، ولا تُجزأ تحت أي ذريعة.
وفي هذا الموقف التاريخي المشرّف، يُجدد الأردن بقيادته الهاشمية المُلهمة حضوره المتميز على الساحة الدولية كصوتٍ عاقلٍ وشجاعٍ في زمنٍ تندر فيه الأصوات النزيهة. وإننا، إذ نُثمّن عاليًا هذا الدور القيادي والمسؤول الذي يضطلع به جلالة الملك عبد الله الثاني، نُدرك تمامًا أنّ هذا الصوت لا يُمثل الأردن فحسب، بل يُمثل كل من ينشد الحق، ويؤمن بالحرية، ويصبو إلى كرامة الإنسان.
نسأل الله العلي القدير أن يحفظ الأردن، وطنًا عزيزًا آمنًا، وأن يحمي قيادته الهاشمية المُباركة، التي ما توانت يومًا عن القيام بواجبها تجاه شعبها وأمّتها. ونسأله تعالى أن يبقى صوت الحق الأردني عاليًا، يُضيء عتمة العالم، ويهدي الحائرين إلى دروب الكرامة، والعدالة، والإنسانية، والسلام.